عودة إلى مذبحة الملعب: هم أو الفوضى
قراءة الحدث على مسافة من وقوعه تظهره أكثر، وتستبطن رسائله ودلالاته على نحو أوضح، فما بالك إذا كانت أحد عشر عامًا كاملة مضت على المذبحة التي ارتكبت بحق جماهير الكرة المصرية في ملعب مدينة بورسعيد، وحصدت أرواح 74 شهيدًا.
لحظة وقوعها، وبينما كان الدم يتدفق ساخنًا والحزن ينهش الصدور، استقبلت جماهير الثورة المصرية في ذلك اليوم، الأول من فبراير/ شباط 2012، أنباء مذبحة بورسعيد على أنها طعنةٌ في قلب الثورة، وضربة موجهة بدقة شديدة في التوقيت والمكان، حيث مباراة فريقي الأهلي القاهري والمصري البورسعيدي، وما يكتنفها من أجواء إثارة وندّية وحضور جماهيري حاشد وغضب طوال تاريخ مواجهات الفريقين.
سجّلتُ وقتها أنها لم تكن مباراة فى كرة القدم بين المصري والأهلي، بل كانت معركة سياسية دامية ضد الثورة، خطّط لها ونفذها خصوم هذه الثورة ممن ضجّوا بمطالبها، وأصدقاؤهم من حثالات النظام السابق، في توقيت بالغ الدلالة قبل يوم من ذكرى موقعة الجمل، وهو اليوم الذي قايضنا فيه المخلوع "أنا أو الفوضى"، ثم قطعان البلطجية تعمل آلة القتل والتنكيل من فوق ظهور الجمال والخيول فى حشود الثوار في الميدان.
كانت هناك "بروفة" مصغرة لمجزرة بورسعيد، نفذها الممسكون بالسلطة، ولا يريدون أن يتنازلوا عنها قبل ذلك بتسعة أشهر، وتحديدًا في مباراة بين الزمالك المصري والنادي الأفريقي التونسي في مطلع أبريل/ نيسان 2011، حين فتحوا أبواب الملعب تمامًا للجمهور الغاضب، فسالت الدماء على العشب الأخضر. وكان ذلك بعد ساعاتٍ من المظاهرة المليونية فى ميدان التحرير، والتي ربح فيها المصريون التحدّي من خلال "جمعة الإنقاذ" التي استعادت وهج الثورة وزخمها، بعد أن زعم بعضهم أن أحدا لن يلبّي نداء التظاهر من أجل استكمال مطالب الثورة بعد فتنة الاستفتاء على تعديلات الدستور.
لا يخفى، بالطبع، أن الحضور المذهل لروابط مشجعي كرة القدم في مشهد الحراك الثوري كان فارقًا في منح هذه الثورة زخمًا على زخم، على نحوٍ وضع جماهير الملاعب على لوائح الانتقام عندما تحين الفرصة .. وقد كان.
وقعت مذبحة بورسعيد في توقيتٍ وجد فيه المجلس العسكري نفسه، وقد استنفد مخزونه من الحيل والأكاذيب وأساليب الخداع التي استخدمها للتهرّب من مطالبات الثورة بتسليم السلطة من خلال الإسراع بإجراء الانتخابات الرئاسية، وهو ما عبّر عنه المصريون بتظاهراتٍ ملأت ميدان التحرير، والميادين الكبرى بالمحافظات، يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2012، في مشهد لا يقل جلالًا عن مشاهد الأيام بين جمعة الغضب وإعلان رحيل حسني مبارك، حيث كان المطلب الوحيد يومها هو المطلب ذاته في اليوم نفسه في يناير من العام السابق 2011: رحيل المشير ومجلسه كما رحل حسني مبارك. .. ردّ مبارك بمذبحة حصدت 14 شهيدًا فيما عرفت بموقعة الجمل، وجاء رد المشير بالطريقة ذاتها في بورسعيد بمذبحة أوقعت 74 شهيدًا.
في التاسع عشر من يناير 2012، كانت الجولة النهائية من انتخابات البرلمان قد انتهت، معلنةً تشكيل مجلس نيابي يتولّى سلطة التشريع في الثالث من فبراير/ شباط، وبينما الجميع منشغلون بمتابعة النتائج، قام المجلس العسكري، خفية وفي جنح الظلام ومن وراء ستار، بتمرير قانون الانتخابات الرئاسية ونشره في الجريدة الرسمية، على الرغم من أن المحكمة الدستورية كانت قد رفضت القانون بالصيغة المقدّمة وأرجعته في اليوم السابق مباشرةً لنشره بالجريدة الرسمية إلى العسكري طالبة تعديل خمس مواد، ثم إعادة إرساله إليها.
كان المجلس العسكري حريصًا على تمرير ذلك القانون، قبل أن يتشكّل البرلمان، ويبدأ ممارسة سلطته التشريعية. وفي ذلك كتبت حينها: إما أن المجلس العسكرى لا يعترف بالمحكمة الدستورية العليا، ولا بملاحظاتها أو دورها فى الرقابة على التشريعات.. أو أن "الدستورية العليا" تحوّلت إلى إدارة تابعة للمجلس العسكري، وقرّرت التنازل عن إرادتها له، ليتصرّف في الدستور والقوانين كما يشاء.
في تلك الأثناء، كانت المخابرات العسكرية التي يرأسها اللواء عبد الفتاح السيسي تعبئ الفضاء الإعلامي المصري بتسريباتٍ وتحليلاتٍ عن مخطط أجنبي شرير، لضرب مصر في العيد الأول لثورة الخامس والعشرين من يناير. وأعلنت طائفة الخبراء الاستراتيجيين وإعلاميو الدوائر الأمنية التعبئة بشعارات مصر لن تركع، وأن الأساطيل الأجنبية تحرّكت لغزو البلاد بسبب مطالبة الثورة الشرير للعسكريين بتسليم السلطة للمدنيين.
غير أن ذلك كله لم يكن كافيًا لخداع جماهير الثورة، مرّة أخرى، فبقيت الميادين مشتعلةً بالغضب، وبالوعي الكامل بأن المؤامرة الحقيقية في الداخل ينفذها الذين ذاقوا طعم السلطة فقرّروا ألا يتخلوا عنها أبدًا. ومن أسفٍ أن البرلمان المنتخب الذي كان يعوّل عليه في انتزاع سلطة التشريع، خطوة أولى على الأقل، جاء دون مستوى الأحلام، وبان في أوقات كثيرة متناغمًا مع الرواية العسكرية. وشيئًا فشيئًا، نجح العسكري في اغتيال البرلمان، بضربةٍ استبق بها انتخاب رئيس للجمهورية، وكأن قرارهم دائمًا كان أن تبقى مصر تتحرّك طوال الوقت على ساقٍ واحدة، فلا تكتمل ملامح النظام السياسي أبدًا، وكما كان هناك برلمان من دون رئيس للدولة، كان لازمًا أن يأتي الرئيس من دون برلمان للدولة. وفي الحالتين، يكون العسكري هو الساق الثانية، بشكلٍ مؤقت، حتى يتمكّن من بتر الساق الأخرى، المدنية، ويصير النظام برمته عسكريًا.
كانت مذبحة بورسعيد انتقامًا من ذلك الكيان الأسطوري الذي يسمّى الجماهير، ولا يزال الانتقام مستمرًا.