عواصف نوفمبر في مصر
هل مصر بحاجةٍ إلى تغيير سياسي؟ نعم، هي في مسيس الحاجة للتغيير.
هل تستحق مصر تغييرًا؟ بالتأكيد تستحق.
هذا مفروغٌ منه، ولا يختلف عليها اثنان أصحاب عقل وضمير، إنما الخلاف هو في مفهوم التغيير، أو الاشتراطات الواجب توفرها لكي نطلق على الانتقال من حال إلى آخر تغييرًا.
تمور مصر هذه الأيام بالشائعات والوعود والتسريبات والتنبؤات والتخوّفات، وتندلع موجات الأمل الممتزج بالقلق، أو ربما الرعب من المجهول الذي اختارت له قوى خفية وغامضة موعد الحادي عشر من نوفمبر/ تشرين ثاني للمجيء، وكأن الأطراف كلها قرّرت أن تمارس نوعًا من ترويج دعوة إلى المجهول، بما في ذلك الأطراف المعادية لفكرة التغيير أو حتى التبديل داخل المنظومة ذاتها، وفي ذلك تبدو ملفتةً تلك الأصوات المرعوبة، أو التي تدّعي الرعب، داخل إعلام السلطة الحالية، بالكلام الكثير عن الموعد المضروب في الشهر المقبل.
هناك في الضفة الأخرى، تتهاطل الوعود والتأكيدات والتسريبات على أن النهاية اقتربت، وأن القرار اتخذ ولا يبقى لتنفيذه سوى حضور الجماهير كمجاميع في العرض الكبير، لكي يتكئ الذين اتخذوا القرار على هذا الحضور في التنفيذ.
وسط هذه الصخب، لا تعدم أصواتًا في المتاهة الإلكترونية الفسيحة تحرّض على التسلح، وتتوعد بالانتقام، وتعلن العداء لكل ما هو قائم، من دون أن تتخلّى عن نَفسٍ طائفيٍّ كريه ومخيف.
ثمّة إصرار من الجميع، إذن، على إضفاء إثارةٍ هائلةٍ على العرض المنتظر، بعضهم باندفاع صادق وحماس متدفق، فيما تفعلها أطرافٌ أخرى من باب الاستثمار في الفزع. ولا تغيب عن الأذهان هنا معادلاتٌ ومساوماتٌ تنشأ بين مكونات المنظومة الواحدة في مناسباتٍ من هذا النوع عبرت، وخصوصًا ما يخص إعادة ترسيم الحدود بين أجهزة النظام، التي تكون حاضرةً، كالعادة، في وضع خرائط الحشد والتحرّك وصياغة السيناريوهات التي تذهب برؤوس الذين اشتدّ عليهم الفقر والقمع، فباتوا لا يمانعون في القبول بأي بديل، حتى وإن لم يكن أقلّ سوءًا من الحالي.
والحال كذلك، ليس من حقّ أحد المصادرة على أشواق الخلاص، أحلامًا كانت أم أوهامًا، كما أن من الجريمة أن يتجاهل أحدٌ أوجاع المقهورين والمظلومين، وعذابات الغائبين المخطوفين في السجون والمعتقلات، غير أنه، في مقابل ذلك، ليس من حقّ أحد أن يفرض هذا النموذج من الحراك بوصفه الثورة، أو الجزء المكمّل للثورة، والتي تذكر فهي تعني يناير، وحدَها، لا شيء مثلها مما أتى بعدها.
هنا يصبح كل صمت أمام رغبات انتقام معلنة، أو تشجيع على الابتعاد عن السلمية نوعًا من الانقلاب على قيم ثورة يناير ومبادئها التي كانت تعبيرًا بليغًا عن القيم الإنسانية في أروع تجلياتها، وكما أصفها دائمًا بأنها الوردة البيضاء، التي لم تخاصم ولم تكره، ولم تترك نفسها لهستيريا الانتقام والعنف، هي التي كانت تلقي التحية على المتوجّسين منها، وتبتسم للجنود المساكين الذين أمروهم بضربها وسحلها، فانتصرت بسلميّتها ونقائها وصدقها وتحضّرها على قنابل الغاز وهراوات العسس.
لم تكن ثورة المصريين بذيئة أو ثقيلة الظل .. بل كانت ساخرةً بغير تسفل، ومبدعةً بغير ادّعاء .. لم تكن عدوانيةً، لكنها كانت ترد الإهانة من دون عنف، وتزداد تحدّيًا كلما اعتدى عليها الأوغاد.
قبل عامين وشهر، مع اندلاع عاصفة المقاول محمد علي في خريف 2020، والتي اكتسبت زخمًا جماهيريًا كان من الممكن أن يصنع تيارًا ثوريًا، لولا الخذلان الذي مارسه الجميع بحق الشعب، جبنًا أو انتهازيًة أو خواءً، كتبت "إننا لسنا بصدد حركة تغيير ثوري، وإنما هي عملية تبديل، أو إزاحة وإحلال داخل النظام ذاته، وهذا لا اعتراض عليه، إذ يلامس في الحدّ الأدنى أحلام الناس في استنقاذ المعتقلين وكبح جماح المقتلة الدائرة في البلاد منذ استيلاء السيسي على السلطة بانقلاب عسكري مكتمل الأركان، حتى وإن كان مغلفًا بقماشة جماهيرية مصنوعة بحرفية شديدة".
أخيرًا، يبقى أي نزوع إلى العنف أو استخدام القوة بعيدًا عن السلمية لا يخدم إلا الذين انقلبوا على ثورة يناير وأشعلوا فيها النار، فاحلموا بالتغيير من دون أن يتحوّل الحلم إلى كابوسٍ يرسم خطوطه أوغاد.
اللهم فاشهد.