عن مواتٍ لا يتمّ
أذكر أنّنا، في الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت خمسة عشر عاما، فقدنا أعزّاء وأشخاصًا لم نعرف إلى اليوم عن مصائرهم الكثيرَ. أشخاصٌ اختفوا، أو أنهم بالأحرى أُخفوا وفُقدوا ولم يُعثر على جثثهم، مع الافتراض أنهم قُتلوا ولا ريب إمّا على الحواجز التي كانت تُقام عشوائيا ويتمّ القتل فيها على الهوية، أو أنهم راحوا ضحايا مجازر جماعية انتهت إلى حرق الضحايا أو إلى إخفائها في أمكنةٍ لم يتمّ نبشها. ثمّة لبنانيون فُقدوا أيضا في غياهب سجون النظام الأسدي، لا يعرف أهاليهم عنهم شيئا ويرفض النظامُ القاتل الاعتراف بوجودهم لديه.
والد صديقة لي فُقد على حاجز في أثناء توجّهه من الجنوب إلى بيروت. عثروا على سيارته مركونة على جانب الطريق، لكنهم لم يعثروا عليه. استمرّوا أعواما طويلة يبحثون عن أثرٍ له، عن جثمانٍ أو أوراق أو بقايا ملابس أو أي شيءٍ يُسمح لهم أن يعتمدوا روايةً تجزم بأنه توفّى. وكلّما يئسوا ومالوا صوب فرضية اعتباره ميتًا، خرجت لهم روايةٌ جديدة، شاهدٌ جديد، بارقةٌ ما تحيي فيهم أملًا انطفأ بعد طول معاناة، وهو أملٌ لا يلبث أن يتحوّل يأسًا مضاعفًا عندما يتضّح لهم أن الوعدَ كان كاذبًا وأنهم وقعوا مرّة أخرى، فريسة أوهامٍ، أو ضحية ضرب احتيال.
أعواما طويلة، وبعد أن غادرْنا المراهقةَ ودخلنا في دورة الحياة فتزوج منّا مَن تزوّج وسافر مَن سافر، بقيت صديقتي، عندما ترمي قسَما وتريد تدعيمه بيمينٍ معظّم، تقول: "بغُربة أبي"، متفاديةً عبارة: "برحمته"، ذلك أنه، في نظرها، مغيّب قسرا، أي أنه ما يزال حيّا بشكلٍ ما، وهو إن لم يكن حيّا بشكلٍ مؤكّد، فهو ليس ميتا باليقين، إذ لا يتمّ المواتُ ولا يكتمل إلا بالإثبات واليقين، أي باستلام جثّة وغسلها وبكائها قبل مواراتها الثرى.
في حروبٍ أهلية أخرى، وحروبٍ كثيرةٍ مجاورةٍ تلت وتكاثرت بعد الحرب اللبنانية إياها، في سورية والعراق واليمن وليبيا، .. إلخ، استمرّ المواتُ، على كثرته وازدياده، يتضاءل، منذورا للنقصان، وقد راحت الجثث تصل مقطّعة، موصّلة، غير مكتملة الأعضاء، فاقدةً في أحيان كثيرة هيئتها الآدمية في ما يشبه عمليات مسخٍ وتشويهٍ وتقطيع، كأنّ الموتَ، بحدّ ذاته، بات هدفا للقتل، أو تحوّل ضحيةً لهمجيةٍ وبربريةٍ بلغتهما المنطقة التي تعيش زلازل ثورات مجهضة وحروبا عبثية وفوضى خراب ودمار شاملين.
في روايتها المؤثّرة، "مقام الريح" (دار المتوسّط، 2021)، تروي السورية سمر يزبك عن معاناة الجنديّ الجريح، عليّ، ابن الطبيعة الحرّة الآسرة الذي جُنّد رغما عنه، وقد تعرّضت كتيبتُه في الجيش لقصف طيرانٍ صديق، عن طريق الخطأ، فأودى بحياة الجنود، باستثنائه هو، الناجي الوحيد، ملقىً خلال ليل ونهار، على قمة جبل، تائها بين الموت والحياة. همّ عليّ الأوحد هو تفقّد مكان إصابته وتمام أعضائه والزحف بها نحو شجرةٍ يتسلّقُ أغصانها فلا تأكله الضباع ويعود إلى أمه على الأقل جثّةً كاملة، على عكس أخيه الأكبر الذي لم تتمكّن المسكينة من بكائه، إذ عاد إليها جثة مقطّعة مشوّهة، أُخفيت في تابوت أُغلق بإحكام ومُنعت من فتحه كي تلقي على ابنها نظرة وداع.
أيضا، يفتتح خليل صويلح روايته الصادرة أخيرا "احتضار الفرس" (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2022) بقصة تروي فاجعة والد يتسلّم جثة ولده الجندي منقوصة، يقول: "أقصى ما حلم به الأب (...) أن يصل جثمان ابنه كاملًا من إحدى جبهات القتال، وأن يدفنه على عجل". هكذا يتلقى تعليماتٍ صارمةً تقتضي منع فتح التابوت، تحت طائلة المسؤولية، وضرورة دفن جثمان الابن على الفور. لكنّ الأب سينبش قبر ابنه ويُخرج الجثة. "لم يستوعب الأب المحزون كيفية تركيب الجثمان على هذا النحو الأخرق، وهل كانت حصّته ذراعًا إضافية بدلًا من رأس ابنه؟ ثمّ، ما مصير جثة العسكري التي ذهبت إلى مكانٍ ما بذراعٍ ناقصة"!
هذه أشكالٌ من مواتٍ لا يتمّ، يبقى هكذا مثل لحظة مبتورة، معلّقة في الزمن، لا تبيح لمن تصيبه حِدادًا أو مراسمَ عزاء يجري بموجبها دفن الميت لاستئناف حدّ أدنى من الحياة.