عن مقترح تعديل قانون الجمعيات في تونس
لم يكن مفاجئاً أن تعلن الحكومة التونسية نيتها إدخال تعديلات جوهرية على القانون الحاكم للمنظمات غير الحكومية، فإعادة صياغة نشاط المجتمع المدني غالبا ما تكون هدفاً لحكومات كثيرة في أوقات الأزمات السياسية، وسياقات تغير المزاج السياسي والشعبي تجاه قضية الديمقراطية، وتداول السلطة. كان نشطاء المجتمع المدني، والمنظمات غير الحكومية، هدفاً للقيود التشريعية والملاحقات القضائية في بولندا والمجر، وكلتاهما في الاتحاد الأوروبي، في أعقاب تصاعد الموجة الشعبوية اليمينية في السلطة والمجتمع خلال السنوات الخمس الأخيرة في كلتا الدولتين. وكما هو الحال في تونس، يجري اتهام مؤسسات المجتمع المدني باعتبارها ستاراً للتدخل الخارجي من خلال ما تتلقاه من تمويل، وما تقوم به من أنشطة خاصة في القضايا والمجالات التي تتعارض مع أجندة الحكم، مثل حقوق الإنسان وحكم القانون ودعم الحريات الديمقراطية، فضلاً عن تحميل مؤسسات الديمقراطية الليبرالية، ومنها حرية التنظيم، المسؤولية عن التحدّيات الاجتماعية والسياسية التي تواجهها البلاد.
يجري اتهام مؤسسات المجتمع المدني باعتبارها ستاراً للتدخل الخارجي من خلال ما تتلقاه من تمويل
لقد مثّل المرسوم التونسي عدد 88 لعام 2011، والمتعلق بتنظيم الجمعيات، إنجازاً نوعياً غير مسبوق في العالم العربي في تحرير منظمات المجتمع المدني من القيود الإدارية والأمنية في كل مراحل عملها بداية من ضمان حرية تأسيس الجمعيات المرهونة بإرادة مؤسسيها وتنظيمهم، لاستقلالية الإدارة الداخلية للجمعيات، واختيار مجالس إدارات هذه الجمعيات وقياداتها، وتلقي التمويلين، الداخلي والخارجي، وإقامة علاقاتٍ مع المجتمعين المدنيين، الإقليمي والعالمي. كما فسح هذا القانون مجالاً واسعاً أمام منظمات غير حكومية دولية وإقليمية، حقوقية وتنموية، للعمل في تونس، حيث اعتبرت تونس مركزاً للعمل الجمعوي المستقلّ في العالم العربي. وقد مثل هذا القانون بحق استحقاقاً رئيسياً في تجربة التحوّل الديمقراطي في تونس خلال السنوات الأولى ما بعد خلع الرئيس زين العابدين بن علي. وكان من أهم تجليات التوافق بين القوى السياسية والمدنية المنخرطة في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في تونس، والذي تشكّل عام 2011 برئاسة الفقيه الدستوري عياض بن عاشور. وقد كان لمنظمات المجتمع المدني في تونس منذ سنوات ما قبل الثورة، والأخرى التي تأسّست منذ 2011، فضل أساسي في نجاح تبنّي إصلاحات سياسية وتشريعية عديدة في مجالاتٍ، مثل حرية الإعلام والصحافة، تبنّي تشريع متطوّر لمناهضة العنف ضد المرأة، تبنّي أول تشريع في العالم العربي يكافح ويعاقب على التمييز العنصري. كما ساهم المجتمع المدني في دعم عمل لجنة الحريات الفردية والمساواة، والتي تشكّلت بقرار من الرئيس السابق، الباجي قايد السبسي، في 2017، وتوّج عملها بإصدار تقرير عن الإصلاحات المطلوبة لتعزيز الحريات الفردية، والمساواة الكاملة بين الرجال والنساء في تونس.
تنوّع منظمات المجتمع المدني في تونس واستقلالها سيظلان أهم متنفس سياسي ومدني، خصوصاً لقطاع الشباب
وبحسب ما هو منشور بشأن مقترح التعديلات المطروحة، فالحكومة التونسية اليوم تسعى إلى إعادة صياغة قواعد العمل الأهلي في البلاد، بحيث تمنح أجهزة الدولة صلاحياتٍ أكبر في قبول تأسيس الجمعيات أو رفضها، وتقييد علاقاتها الخارجية، وتبنّي قيد عام في القانون يحظر على الجمعيات "تهديد وحدة الدولة أو نظامها الجمهوري والديمقراطي"، و"ألا تكون أهداف وأنشطة الجمعية ضمن اختصاص الهيئات العامة". كما تحظر المقترحات، على قيادات الجمعيات، الترشّح للانتخابات خلال السنوات الثلاث التي تسبق الموعد النهائي للانتخابات. تهدف التعديلات المقترحة أيضاً إلى التحكّم في مصادر تمويل الجمعيات عبر الموافقة المسبقة على تلقي الجمعيات المساعدات أو الهبات أو التبرّعات الأجنبية، وتقترح التعديلات أن تتولّى اللجنة التونسية للتحاليل المالية عملية الموافقة على تمويل الجمعيات. ومن المفارقة أن تتولّى تلك اللجنة التي تأسّست عام 2015 طبقاً لقانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال الرقابة المسبقة على نشاط مدني وحقوقي، فقد مثلت حرية تلقي الجمعيات للتمويل الأجنبي أحد بواعث قلق السلطة التونسية من التنظيم الحالي للجمعيات التونسية، على الرغم من أن قانون ما بعد الثورة التونسية وضع ضمانات لضمان شفافية إدارة هذا التمويل، حيث إن جميع الجمعيات المسجلة، طبقا لهذا القانون، ملزمة بتقديم تقرير مراجع حسابات عن حساباتها الختامية السنوية، كما أن الجمعيات ملزمةٌ بنشر مصادر تمويلها علانية، فضمان تطبيق ما هو موجود في القانون بالفعل يكفي لضمان الشفافية والنزاهة، والفصل بين التمويل السياسي والتمويل ذي النفع العام للمجتمع المدني. من ناحيةٍ أخرى، لدى معظم جهات التمويل الغربية المعروفة، هي الأخرى، إجراءاتها الرقابية لضمان التوظيف الأمثل للتمويل الممنوح للجمعيات التونسية.
تنوّع منظمات المجتمع المدني في تونس واستقلالها سيظلان أهم متنفس سياسي ومدني، خصوصا لقطاع الشباب. كما أن لهذه المؤسسات أدواراً اجتماعية أساسية تعوّض غياب الدولة أو ضعف وجودها في بعض المناطق المهمّشة اقتصادياً. لقد سمحت الحرية المكفولة في هذا القانون بتشكّل جبهة مدنية قوية ومتنوعة على مدار سنوات العقد السابق في تونس. وعلى الرغم من أن هذه الجبهة المدنية حافظت على تجربة التحول الديمقراطي في محطات مفصلية، إلا أن الموجة الحالية المناوئة لنموذج الديمقراطية الليبرالية في تونس أعتى من أن تواجهها مؤسسات المجتمع المدني وحدها، في ظل واقع اقتصادي واجتماعي صعب، وانقسام سياسي حادّ، وإحباط شعبي عميق من النخب والأحزاب السياسية، بمختلف مكوناتها الأيديولوجية. لكن اتجاه السلطة إلى تقييد عمل المجتمع المدني لن يؤدّي سوى إلى مزيد من تعقد المشهدين، السياسي والاجتماعي الراهنين، في تونس.