عن مستقبل السوريين مسبق الدفع
ماذا بعد أن اكتمل عقد، ودخلت سورية في عقد ثانٍ، نحلم بأن يكون بعيدًا من الحرب والدمار؟ وماذا بعد تشتت شعبها في بلدان اللجوء وتقسيم وطنه وخضوع هذه الأقسام إلى سلطات الأمر الواقع التي ترنو إلى أن تصبح دائمةً في بعض منها؟ ماذا بعد أن صار سوريّو الداخل يسامون الحرمان والجوع والذل والمهانة في تحصيل حدّ الرمق الذي يبقيهم أحياء، ويبقي أولادهم أيضًا؟ ماذا ينتظر السوريين وإلامَ يرنون وأي أحلام تراودهم أو طموحات يتطلّعون إليها، فيما لو افترضنا أن مكانًا صغيرًا للأحلام والطموحات بقي في زاويةٍ منسيّة من نفوسهم اليائسة؟ سورية نموذج للانهيار الحاصل في المنطقة التي تعاني كل دولة فيها من انهيار مماثل، وها هي لبنان نموذج صارخ وصادم وموجع، كما سورية، وكما العراق واليمن والحبل على الجرّار.
عندما يصير الماضي، بكل نواقصه وإجحافه، حلمًا بالنسبة إلى الشعوب التي عانت من الاستبداد والفساد وهدر المال العام والتخلف عن مواكبة التقدّم البشري، وعانت من الحرمان، ويصير الحاضر الحارق والمستقبل المتوعّد بمزيدٍ من التردّي والسقوط في قيعانٍ ليس لها قرار، من دون أملٍ بالغد أو خطةٍ وبرنامجٍ يمكن الركون إليهما، فهذا دليلٌ دامغٌ على أنّ الواقع قاتم أكثر من إمكانية الفهم والتصديق والاحتمال، واعترافٌ بأنّ هذا الواقع صار مرهونًا بإراداتٍ خارجية، من أجل الخروج منه والإمساك بطوق النجاة. هذا أوّلًا. وثانيًا، من أجل انتظار حياة مستدامة، من دون الرهان أو الحق في التفاوض على نوع استدامتها وكفاءته وكلفته.
عشر سنوات من الاستثمار في الحرب، بكل أدواتها وتجارتها، والأمد ما زال مفتوحًا، بالنسبة إلى الدول والقوى الفاعلة فيها، من الطبيعي والمتوقع والحاصل حاليًّا، أن تكون المفاوضات بين هذه الدول حول اقتسام الكعكة، ما يعني وضع الأساسات وبدء الخطوة الأولى للشركات الطامعة بالاستثمار في مجالات إعادة البناء، من أبسط مستلزمات الحياة العامة إلى أكثرها تعقيدًا، مع عدم إغفال أن هذه الأكثر تعقيدًا ربما، أو غالبًا، تفرضها مخرجاتُ العولمة التي أدخلت الشعوب قاطبةً في بوتقتها، لتعيد إنتاج حياتها وفق النماذج التي تخترعها وتصنعها وتسوّقها، العولمة التي أقامت إمبراطوريات العصر الراهن، ووضعت يدها على المستقبل، فأصبح لا فكاك للشعوب منها ومن سطوتها، ولا تملك أن تغرّد خارج السرب، لأنها مربوطة بخيوط إليها.
القروض، تستفيد منها نخبة قليلة، وتسهم في تكوين مجموعة من الأفراد والعائلات ذات النفوذ الاقتصادي والسياسي، بينما يبقى معظم الشعب يتحمل تبعية القروض
في كتابه "الاغتيال الاقتصادي للأمم، اعترافات قرصان اقتصادي"، يقدّم الخبير الاقتصادي الأميركي، جون بيكنز، خلاصة تجربته نموذجا لما هي عليه سطوة هذه الإمبراطوريات، مالكة المال والاقتصاد، وبالتالي صانعة السياسات، حيث تنشئ المنظمات المالية الدولية الظروف التي تؤدّي إلى إخضاع الدول النامية لهيمنة النخبة الأميركية التي تدير الحكومة والشركات والبنوك، إذ توافق هذه المنظمات، بناء على دراسات الخبراء الاقتصاديين، على منح قروض إلى الدول النامية، بهدف تطوير البنية الأساسية، من محطات توليد الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات والمدن الصناعية، بشرط أن تنفذ المكاتب الهندسية وشركات المقاولات الأميركية هذه المشاريع، بطريقةٍ تعود معها الأموال إلى البنوك الأميركية، ويبقى على الدول المستهدفة سداد الديون بفوائدها، وكلما كان حجم القرض أكبر يُجبر المَدين على التعثر بالسداد، ما ينجم عنه الانصياع لشروط الدائن التي ليس أكثرها التصويت على قراراتٍ ما في الأمم المتحدة، بل السيطرة على موارد البلد، والخضوع للتدخل العسكري أو القبول بالوجود العسكري فوق أراضيها.
هذه القروض، كما يشرح الكتاب، سوف تستفيد منها نخبة قليلة، وتسهم في تكوين مجموعة من الأفراد والعائلات ذات النفوذ الاقتصادي والسياسي، بينما يبقى معظم الشعب يتحمل تبعية القروض، محرومًا من الخدمات الاجتماعية عقودا مقبلة، وهذا أمر يبدو من المجدي التفكير فيه انطلاقًا من تجارب سابقة في العالم، انتهاءً بمنطقتنا، العراق نموذجًا، واليوم ما هي عليه سورية ولبنان.
لن يكون المستقبل رحيمًا بالنسبة للشعبين، السوري أو اللبناني، فنموذج القاتل الاقتصادي صار مدرسةً في السيطرة على الدول وإدارة الصراعات، ونهجًا تمارس وفقه قوى كثيرة حالية سياستها وهيمنتها. لم تعد أميركا هي الوحيدة، هناك القوة الموازية، الصين، وهناك روسيا الطامحة بعودة أمجادها كإمبراطورية، وهناك الدول الإقليمية في المنطقة، إيران وتركيا، كل هذه الدول تمارس دورها بقدر ما يمنحه لها موقعها في مراكز الثقل العالمية، وتعرف كيف تدير ألعابها لتفاوض على مصالحها وحصصها، والمثير للحزن والخزي أننا نحن الملعب والأدوات.
لو تعمّقنا في السياسة المتبعة والأحداث المفصلية التي عصفت بالمنطقة لدخلنا في غيمة كثيفة من الضباب القاتم
مستقبل سورية مرهون للديون مسبقة الدفع. لم تدخل روسيا بكل ثقلها، وتتكبد تكاليف انخراطها في الحرب السورية لأجل مصلحة الشعب، ولم تدخل أميركا وحلفاؤها أيضًا، كذلك إيران وتركيا. كل هذه القوى تنتظر المستقبل المطروحة فيه بلداننا لإعادة الإعمار والنهوض بمشاريعها الأساسية، لتبقى مرهونةً إلى إمبراطورية المال المتحكّم بالعالم، الإمبراطورية الأكثر توحشًّا في تاريخ البشرية، فهي لا تأبه بمصير الشعوب، ولا بكل المنظومات الأخلاقية، تلهث وراء المال والربح، بأساليب ماكرة وناعمة أحيانًا ومضلّلة، ولو كان يهمّها لوصلت المشكلة السورية إلى حلّ يحقن الدماء ويمنع التقسيم ويساعد الشعب في إقامة دولته الضامنة حقوق الجميع. ولو كان يهمّها لما وصل لبنان إلى ما وصل إليه بسبب سياسات مالية مرتبطة وطبقة سياسية فاسدة، وأصحاب رؤوس أموال نهبوا البلاد، وهرّبوا ودائعهم خارجها، بينما الشعب متروك لمشكلاته وانهيار حياته، وتحمّل مسؤولية لاجئين قديمين وآخرين جُدد.
ربما لو تعمّقنا في السياسة المتبعة والأحداث المفصلية التي عصفت بالمنطقة خلال العقود الأخيرة، لدخلنا في غيمةٍ كثيفةٍ من الضباب القاتم، وتاهت بصائرنا وأبصارنا عن فهم حقيقة ما يجري، ولضيّعنا خيوط أي محاولةٍ لربطها مع بعضها بعضًا، هل بقاء الصراع الأميركي الإيراني مطلوبٌ، حتى إشعارٍ تحدّده الولايات المتحدة؟ وهل روسيا المتمسكة بموطئ قدمها ونفوذها في المنطقة مفارقة للسياسة الأميركية؟ وهل الصراع الدائر والحامي بين الصين وأميركا يمكن أن يكون بعيدًا عمّا نحن فيه وعليه؟ وهل طموحات إيران وتدخلها من جهة، وتركيا من جهة أخرى، يمكن أن تكون لأجل الشعب السوري، وعونه على بناء مستقبله؟
كل هذه القوى، وأخرى غيرها من المتورّطين في أزمتنا، يمكن تسميتهم بالقتلة الاقتصاديين، بعد أن كانوا، في جزء كبير منهم، قتلةً فعليين للشعب، بتدخلهم السافر عسكريًّا بشكل مباشر أو بالوكالة. لذلك التفكير في مستقبل البلاد بالنسبة للمواطن العادي يبعث على الخوف، المواطن الذي يحلم بلقمة الخبز اليوم سوف تكلّفه هذه اللقمة مستقبلًا أيضًا، لأن إعمار البلاد الموعود، فيما لو تمّ الاتفاق على الكعكة، ستدفع كلفتها من لقمته، لأن المستقبل صار مرهونًا لسنداتٍ مدفوعةٍ مسبقًا، فالقاتل الاقتصادي يعرف كيف يقتل، لا يُرضي نهمه غير اغتيال مستقبل الشعوب وليس حكامها.