عن طرابلس ولبنان والنظام الطائفي

04 فبراير 2021

إحراءات أمنية ضد احتجاجات في طرابلس شمال لبنان (29/1/2021/Getty)

+ الخط -

تشهد مدينة طرابلس اللبنانية منذ أيام حراكا احتجاجيا ذا طابع طبقي، يطغى عليه غضب فقراء المدينة الذين يعانون من أهوال الأزمة الاقتصادية، وتبعات إجراءاتٍ تقيد الحركة على أعمالهم اليومية، وبالتالي على عوائدهم المالية، ومن آثار إهمال المدينة خدميا واجتماعيا واقتصاديا على مدار العقود الماضية. قد لا يختلف وضع طرابلس عن أوضاع مدن وبلدات لبنانية عديدة في سياقها العام، مع بعض اختلافات جزئية، لكنها مدينة مختلفة في بعدها الاحتجاجي والثوري، فمنذ انطلاق ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بالحد الأدنى، تحولت المدينة، بفضل حيويتها وشبابها النابض بالثورة وبالإصرار على التغيير، وخطابها الوطني العابر للطوائف والمناطق، إلى عاصمة الثورة اللبنانية، كما يحلو لأنصار الثورة وصفها منذ مدة طويلة جداً.

لكن وعلى الرغم من الزخم الثوري الذي شهدته شوارع لبنان منذ "17 تشرين"، ومن نجاحات جزئية متحققة في بدايات الحراك الثوري، كإسقاط حكومة سعد الحريري، إلا أننا لمسنا في الأشهر الماضية بوادر لنجاح النظام والمنظومة الطائفية المسيطرة على لبنان في إحباط جمهور الثورة، ودفعهم إلى العزوف عن الحركة الاحتجاجية التي تقلص حجمها ودورها بشكل ملحوظ، على الرغم من توالي المحفزات الثورية. وذلك بفعل عوامل عديدة، يتعلق بعضها بقصر تجربة الحراك المدني اللبناني، مقارنة ببنى الطائفية المجتمعية الراسخة عقودا عديدة مضت وما زالت، كما يعود بعضها إلى منهجية المنظومة الطائفية في تدوير الأزمة، وتفريعها إلى محاور متعدّدة، غالبيتها ذات طابع طائفي، وكأنها صراع نفوذ داخلها، مثل الخلاف العوني - الحريري، والمسيحي - المسيحي ممثلا بصراع ميشال عون وسمير جعجع والكتائب أحيانا أخرى، وبري - باسيل، والحريري - نصر الله، عبر مناكفات عديدة مستعادة من مرحلة سابقة، والقادرة على إرباك الحراك الاحتجاجي والثوري وإدخاله في تفاصيل سياسية يومية لا تمتّ لبرنامج الثورة بأي صلة.

تحوّل ملموس في بنية النظام والمنظومة اللبنانية من الناحية الأمنية، من بنيةٍ تدّعي الحرية والحق في التعبير والاحتجاج، وتراعيها ولو شكليا، إلى بنية تقوّض الحقوق وتحاصرها وتقمعها

غير أن نجاح المنظومة الطائفية الأبرز يكمن في قدرتها على تفعيل دور المنظومة الأمنية القمعي، وكبح الدور الإعلامي المراقب والمدقق في كل شاردة وواردة، حيث لعب الإعلام اللبناني، ونسبيا العربي، دورا بارزا في كبح قوى المنظومة المسيطرة القمعية بشقيها، الرسمي والزبائني، نظراً إلى طبيعة لبنان ودور الإعلام فيه محليا وإقليميا، ونسبيا عالميا، والتي سلطت الأضواء والكاميرات على غالبية المظاهر الاحتجاجية الكبيرة والصغيرة على حد سواء. نشهد في الأشهر اللاحقة لثورة تشرين بعض مظاهر الانكفاء الإعلامي عن تغطية حيثيات الاحتجاجات اللبنانية وتطوراتها، الأمر الذي انعكس في تصاعد واضح في الممارسات القمعية المباشرة وغير المباشرة، الرسمية وغير الرسمية، بعد زوال سلطة الإعلام في فضح ممارسات السلطة القمعية، كحجز حرية الناشطين واستدعائهم، في بعض الأحيان، على خلفية قضايا ثانوية وملفقة غالبا، إلى تصاعد عنف المنظومة الأمنية والعسكرية النظامية بالضرب المباشر والعنيف، وصولا إلى إطلاق الرصاص على المتظاهرين، والذي أدى، في أحد جولات حصار مبنى البرلمان، إلى قتل عنصر من عناصر المنظومة الأمنية من عنصر آخر عن طريق الخطأ، ومروراً بصمت القوى الأمنية على عنف زعران الأحزاب والقوى وتعدّياتهم تجاه المتظاهرين في أكثر من موقع وأكثر من حالة.

ما أنجزه الشارع اللبناني تطوّر مهم وملموس على أكثر من صعيد، وإنْ لم ينسحب ليطاول تحقيق تطورات ملموسة

وكأننا أمام تحوّل ملموس في بنية النظام والمنظومة اللبنانية من الناحية الأمنية، أي من بنيةٍ تدّعي الحرية والحق في التعبير والاحتجاج، وتراعيها ولو شكليا، إلى بنية تقوّض الحقوق وتحاصرها وتقمعها بفجاجة صريحة وصادمة لكثيرين من دون أي مواربة، وكأننا أمام مشاهد تبث من دول عربية أخرى، مشهود لأنظمتها بسلوكها القمعي والاستبدادي. وعليه، انعكس هذا الوضع على معنويات الحركة الاحتجاجية اللبنانية، وبالتحديد على مظاهرها الاحتجاجية، من حيث الكم والتواتر والحجم، نتيجة تصاعد مخاوف جزء كبير من جمهورها. وبحكم الخشية من تنامي القمع، وتحوّله إلى مشاهد أكثر إجرامية، خصوصا والجميع يعلم دور بعض مكونات المنظومة الطائفية اللبنانية في قمع شعوب مجاورة للبنان وقتلها، وتبعا للخوف من تدهور الأوضاع العامة أسوة بدول عربية أخرى. ولكن المنظومة الطائفية لم تتمكّن، حتى اللحظة، من تقويض نتائج الحركة الاحتجاجية البنيوية التي نثرت بذورها بين جميع مكونات المجتمع اللبناني، ولا سيما بما يخص تنامي الوعي الوطني وانحسار الوعي الطائفي، وهو ما تجلّى في نتائج الانتخابات الطلابية داخل غالبية الجامعات اللبنانية التي أسفرت عن انتصارات الكتل الطلابية العلمانية الثورية على حساب الكتل التي تمثل المنظومة الطائفية المسيطرة فرديا وجماعيا، كما تمظهرت في احتجاجات طرابلس التي جذبت قلوب وعقول جزء مهم من المجتمع اللبناني وحماسته ومؤازرته، بغض النظر عن تموضعه الجغرافي وانتمائه الطائفي، وعلى الرغم من شبه القطيعة الإعلامية عن تغطية التحرّكات الاحتجاجية الحاصلة، وفي ظل الانتشار الأمني الكثيف في مختلف المدن والبلدات اللبنانية، والذي عمل على إعاقة تواصل ناشطي الاحتجاج ومؤيديه ميدانيا، في طرابلس تحديدا، وفي أي بقعة لبنانية أخرى.

احتمالات الردّة ما زالت قائمة وخطيرة، سيما في ظل وضع إقليمي وعالمي يسعى إلى تأجيج الانتماءات ما قبل الوطنية، ويعمل على سحق بوادر الوعي الطبقي أينما كان

لذلك لا بد من البناء على تنامي الوعي الوطني بخطوات حثيثة، تنجز هذه المهمة وتحصّنها أمام هجمات المنظومة الطائفية المسيطرة المتوالية والدورية، عبر انتهاج وسائل نضالية عابرة للطوائف والمناطق، تستهدف رموز النظام، بغض النظر عن المنطقة والطائفة. وهناك حاجة للعمل على إنجاز برنامج ثوري سياسي واقتصادي واجتماعي يناقض برنامج القوى الطائفية المسيطرة شكلا ومضمونا، بعد سنوات من ثبوت فشل الأخير ودوره التدميري. وهو ما يتطلب تفنيد برنامج السلطة وتوجهاتها ومواصلة الخط التحريضي تجاهه، بل وتعزيزه. فما أنجزه الشارع اللبناني اليوم تطوّر مهم وملموس على أكثر من صعيد، وإنْ لم ينسحب ليطاول تحقيق تطورات ملموسة ماديا على مستوى تغير منظومة الحكم، لكنه مقدّمات ضرورية لإنجاز هذا التحوّل في قادم الأشهر. وعليه يجب تقديرها والاهتمام بها، والبناء عليها في المرحلة المقبلة، كما لا بد من صيانتها، فاحتمالات الردّّة ما زالت قائمة وخطيرة، ولا سيما في ظل وضع إقليمي وعالمي يسعى إلى تأجيج الانتماءات ما قبل الوطنية، ويعمل على سحق بوادر الوعي الطبقي أينما كان، ويحدّ من دور الإعلام الرقابي، كي يمنح السلطات مساحة حرة لممارسة إجرامها وجبروتها واستبدادها على قوى الشارع الحية.