عن ديمقراطية الصومال ومثيلاتها الأفريقية
يسجّل الصومال، بعد كل انتخابات نيابية ورئاسية، تجربة ديمقراطية فريدة تجسد مشهداً مغايراً ومخالفاً للصورة النمطية السائدة في الإعلامين العربي والدولي، بحكم أنه منطقة موبوءة بالتوترات والمهدّدات الأمنية العابرة للقارّات، ونموذجاً للدولة الفاشلة في العصر الحديث، لكن مشاهد تداول الحكم سلمياً في هذا القُطر الأفريقي تبدّد تلك النمطيات السوداء والسرديات المقصودة من الإعلام غير الموضوعي، لتشويه الصومال بوصفه بلداً متخلفاً وغير قابل للتعافي من كبوته الطويلة، رغم التقدم السريع والإنجازات التي تحققها البلاد، خصوصا في عملية التداول السلمي للحكم، ومواجهة محاولات تثبيت أنظمة سلطوية تحكمها أيديولوجية الطغمة المنتفعة، والتي دوماً تستأثر بالنفوذ وتمارس ألاعيب الفساد والمحسوبية، وتهمّش قطاعات كبيرة من المجتمع، شأنها شأن دول أفريقية وعربية كثيرة، لا تزال تحاول التحرّر من نمط الإقطاعيات الحاكمة والطبقات المستأسدة بنظام الحكم ردحاً من الزمن.
دولة منهارة فعلياً ولم تنهض بعد من ركام خرابها، وتملأ الفضائيات صور أربعة رؤساء يتداولون الحكم في غضون 20 عاماً
الاستحقاق الانتخابي، الذي شهده الصومال منذ انتخابات عام 2012 وما أعقبها من تداول سلمي للسلطة بقبول الرئيس الخاسر في كل استحقاق انتخابي نتائج الانتخابات فور إعلانها، مثير للدهشة، خصوصا أن هذا يحصل في دولة منهارة فعلياً ولم تنهض بعد من ركام خرابها، وتملأ الفضائيات صور أربعة رؤساء يتداولون الحكم في غضون 20 عاماً، بينما يعاني جوارها الإقليمي من أنظمة ديكتاتورية تكرّس حكم الفرد المطلق، لا سيما في جيبوتي، إما بتنظيم انتخاباتٍ مزيفة يعرف القاصي والداني نتائجها مسبقاً، أو من خلال تمديد فترة الرئاسة أعواما أخرى، لتهيئة الأجواء لسلطته وحكمه المطلق، كما أن مجرّد إجراء انتخابات في هذه الدول يستدعي قلقاً دولياً وبعبعاً إقليمياً، والانتخابات صمّام أمان للخروج من الأزمات لدول القرن الأفريقي، الاقتصادية والسياسية والأمنية، بل هي بمنزلة مِخلب حادّ الأقواس، يسحبها نحو أتون حرب أهلية مريرة، وما حدث في إثيوبيا خير دليل على ذلك، عندما تأجلت الانتخابات لدواعٍ صحّية، والحد من تفشّي كورونا عام 2020، وتنفجر حرب مدمرة في إقليم تيغراي في إثيوبيا، بينما تتجه الأنظار نحو كينيا التي تتهيأ لتنظيم انتخابات رئاسية في أغسطس/ آب المقبل، وهو ما يعيد إلى الأذهان، في كل استحقاق انتخابي في هذا البلد، الدماء التي سالت في شوارع نيروبي وأزقتها في انتخابات عام 2008، والتي أدت إلى مقتل نحو ألف شخص بسبب نتائج الانتخابات، بينما رواندا الصاعدة اقتصادياً يحكمها بول كاغامي منذ نحو ثلاثة عقود، رافعاً شعاره، إما أنا أو الهولوكست، ناهيك بإريتريا التي لا يذكر اسمها إلا وأساس أفورقي مقرون بها، ما يجعل مشهد تداول الحكم سلمياً في الصومال ديمقراطية منقطعة النظير، وكأن حكام جواره يحسدونه عليها، ولا يتمنون استمرار تعافيه من جروح الحرب الغائرة حتى لا يلهم شعوب قرن أفريقيا للثورة على مستبدّيها.
من الصعوبة حالياً تجاوز التحديات والملفات الشائكة التي تنتظر الرئيس الجديد حسن شيخ محمود، وفي مقدمتها الترهل الأمني والقصور الشديد في المؤسسة العسكرية في مواجهة القلاقل الأمنية، المتمثلة في صعود تنظيم "الشباب المجاهدين" في وسط البلاد وجنوبها، بسبب تراجع العمليات العسكرية برّاً وجواً، والتي كانت تنفذ مشتركة بين القوات الصومالية والأفريقية، إلى جانب إمكانية فدرلة الأمن في البلاد، والاعتماد على نظام أمني فدرالي غير مركزي، من أجل تقويض الجماعات المناوئة للدولة، ومواجهة نفوذ المليشيات العشائرية المسلحة التي تهدّد الدولة، والتي برز وجودها، أخيرا، بسبب انقسامات داخل الجيش وتفكّكه بين الموالاة للقبيلة أو الدولة، بسبب مخاوف كانت موجودة من إمكانية اندلاع صراع أهلي في البلاد، غداة إعلان تمديد فترتي الرئاسة والبرلمان عامين إضافيين. ولا تقتصر جملة التحديات هذه فقط على البعدين، الأمني والسياسي، بل تتعدّى إلى مكافحة الفساد بسن تشريعات جديدة، والاعتماد على قوانين بديلة غير التي عفى عليها الزمن، ولا تتماشى مع متطلبات الحاضر، إلى جانب تحويل النظام الذي تحكمه عادة طبقة متنفذة إلى حكم يسع للجميع، تكون الكفاءة معيار التوظيف بدل التحيزات العائلية والتمايز العشائري والجهوي.
من الصعوبة حالياً تجاوز التحديات والملفات الشائكة التي تنتظر الرئيس الجديد حسن شيخ محمود، وفي مقدمتها الترهل الأمني
أصعب التحدّيات أمام الرئيس حسن شيخ محمود هي تنفيذ الوعود التي أطلقها قبل انتخابه بيومين، وتلك التي قطعها على نفسه، ليلة انتخابه رئيساً جديداً للبلاد أربع سنوات تنقضي عام 2026، حيث قال، في كلمة تكررت في خطاباته وبمعدل قياسي: "لا يمكن نكران جروح الماضي، لكن يمكن غفرانها"، خطاب مهَّد له كجسر عبور إلى إمكانية تحقيق مصالحة حقيقية بين مكونات المجتمع المحلي، الذي لم يجد بعد من يوفر له أرضيةً خصبةً للتصالح فيما بينه لتضميد جروح الماضي، وإصلاح القلوب الخربة التي تفترسها الأحقاد الدفينة بين قبائل حُرمت من أبسط حقوقها بسحقها اجتماعياً، وهمشت سياسياً، وأخرى مارست البطش والبلطجة، واعتدت على حقوق غيرها، من نهب وسلب وسفك الدم، وهو ما يحتاج سنوات لتجاوز آثارها النفسية والاجتماعية. ولكن بالإمكان، إذا شمَّر الرئيس المنتخب عن سواعده لتحقيق هذا المطلب الأساسي في بناء الدولة في الصومال، من خلال نبذ العنف وتعزيز جهود المصالحة، يمكن أن يحقق نتائج إيجابية، كونه رجل مصالحة. ومن هذا المنطلق، جرى انتخابه رئيساً من بين 33 مرشحاً للرئاسيات، لكن إذا فشل في تحقيق مصالحة حقيقية، فستبقى السيوف في غمدها، حتى إشعار آخر.
تبدو ملفات الصومال الخارجية هي أيضاً أكثر تعقيدا من تحدّيات الداخل، فالسياسة الخارجية انعكاس للسياسة الداخلية لأي دولةٍ ما، فالتصدّعات التي شهدتها الخارجية الصومالية منذ انتخابات عام 2017 تحتاج من يرمّمها ويعيدها إلى بوصلتها، خصوصا العلاقة مع كل من نيروبي وجيبوتي وأبوظبي، والتي شابها جمود دبلوماسي بسبب توترات سياسية بين مقديشو وعواصم تلك الدول، كما أن إعادة التطبيع بشكل رسمي مع الإمارات وكينيا تحتاج إلى إعادة النظر من حيث علاقاتهما بجمهورية ما تسمى أرض الصومال (صومالاند) الانفصالية، حيث إن دبلوماسية شد الأطراف من خصوم الصومال أخذت مجراها في التعاون الدبلوماسي بين هرجيسا وأبوظبي ونيروبي، بسبب مواقفهما مع مقديشو، بتدشينهما مقارَّ مؤقتة في هرجيسا للضغط على مقديشو، وهو ما يحتاج إلى بذل مزيد من الجهود من حكومة مقديشو لاستعادة علاقاتها مع الجوار والمحيط العربي، من دون أن تتنازل عن سيادتها واستقلالها، هذا إلى جانب تبنّي سياسة إعادة التوازن ومبدأ الحياد إلى السياسة الخارجية الصومالية، فالتكتلات التي يشهدها القرن الأفريقي بين قوى صاعدة (تركيا الصين روسيا) والقوى المهيمنة (أميركا فرنسا بريطانيا) تضع الصومال أمام اختبار صعب، لاختيار حليفه الاستراتيجي بين أجنحةٍ متصارعةٍ على تقاسم الثروات الهائلة التي تمتاز بها دول المنطقة، ناهيك بالصراعات الداخلية التي تشهدها تلك الدول، مثل السودان وإثيوبيا والصومال، وهو ما يجعل الوضع الإقليمي بمثابة حقل ألغام، ينبئ بتحولات سريعة في القرن الأفريقي، والتي انطلقت شراراتها منذ وصول أبي أحمد إلى سدة الحكم في إثيوبيا عام 2018 .
الديمقراطية التي عرفها الصومال منذ فجر استقلاله (1960)، وتنتظم حتى في وسط محنه وأزماته السياسية، تبدو في جوهرها نموذجاً فريداً
اللافت إن الديمقراطية التي عرفها الصومال منذ فجر استقلاله (1960) وتنتظم حتى في وسط محنه وأزماته السياسية، تبدو في جوهرها نموذجاً فريداً أفريقيا وعربياً، لكن في مضامينها وآلية إجرائها معقدة الاستيعاب وصعبة الهضم، لأن إمكانات إجراء انتخابات عامة لم تعد متوفرة، بتغلغل القبيلة في مفاصل الدولة ونظامها السياسي، في مقابل تغييب التعدّدية الحزبية السياسية، والتي لم تبلورها بعد الحكومة الفيدرالية، فضلاً عن عدم استكمال الدستور المؤقت وتقنين تشريعات جديدة لفصل السلطات والصلاحيات بين المؤسسات التنفيذية، من خلال رد الاعتبار للمحكمة الدستورية، والاعتماد على بنود الدستور بدل القفز عليه، لبتّ القضايا السياسية والقضائية الشائكة، لكن من دون تحقيق جملة المتطلبات الأساسية هذه، يصبح مشروع إجراء انتخابات مباشرة عام 2026 نسجاً من الخيال.
في النهاية، يعلق المواطن الصومالي البسيط آماله على الرئاسة الجديدة لتحسين ظروفه المعيشية، خصوصا في ظل مخاوف من إعلان المنظمات الأممية العاملة في الصومال عن مجاعة جديدة في البلاد في غضون شهر يونيو/ حزيران، بعد توسّع رقعة الجفاف في المنطقة التي تعرف تاريخياً وجغرافياً بـ"الإقليم الصومالي" في كل من إثيوبيا وكينيا وجنوب الصومال وشمالها، حيث يهدّد الجفاف حياة قرابة ثمانية ملايين (من إجمالي عدد السكان 14 مليون نسمة)، إلى جانب تداعيات تدهور الاقتصاد بارتفاع التضخم وتفشّي البطالة في أوساط الشباب، وهو ما يحتاج تدخلاً عاجلاً، محلياً ودولياً، لمنع حدوث مجاعة مماثلة لتلك التي حدثت عام 2011، وقضت على أرواح أكثر من ربع مليون صومالي في غضون بضعة أشهر. تحدّيات إنسانية واقتصادية، تضاف إلى جملة التحدّيات السياسية والأمنية، تضع الحكومة المرتقبة في اختبارٍ صعب، وتهدّد مستقبل الرئيس المنتخب، حسن شيخ محمود، السياسي، إذا كرّر نسخة طبق الأصل من فشليه، السياسي والأمني السابقين، فهل يخرج شيخ محمود الصومال من وحل الأزمات، ومن براثن الجوع؟.