عن حملات مقاومة التطبيع في الأردن

16 نوفمبر 2023

أردنيون في تظاهرة ضد العدوان علي غزّة قرب سفارة إسرائيل في عمّان (17/10/2023/فرانس برس)

+ الخط -

للشعب الأردني باع طويل في مقاومة التطبيع مع إسرائيل، ففي عام 1994 الذي وُقّعت فيه اتفاقية السلام التي عُرفت باتفاقية وادي عربة، تشكّلت فورًا لجان مقاومة التطبيع التابعة لأحزاب المعارضة والنقابات المهنية ومؤسّسات المجتمع المدني، ثم ولدت بعد أشهر قليلة، وتحديدًا في مايو/ أيار 1995، اللجنة التنفيذية العليا لحماية الوطن ومجابهة التطبيع، وصاغت مفهومًا جامعًا مانعًا لمقاومة التطبيع، وحاولت إحكامه منعًا لأي محاولة التفاف أو تحايل على هذه المسألة، فضمّنته جميع ما من شأنه أن يؤدي إلى إزالة حالة العداء مع الاحتلال الصهيوني، أو إضفاء الشرعية على اغتصابه الأرض الفلسطينية، أو تكريس ملكيته لها أو سيادته عليها، من فكر أو قول أو فعل، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة، وسواء أكان اقتناعًا أم خضوعًا وقبولًا بسياسة الأمر الواقع، وفي مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والإعلامية وغيرها.

بعد أعوام من وادي عربة، بدأت تخرُج إلى النور حملات مقاطعة الكيان الصهيوني في الأردن، والتي نشطت في تنظيم فعاليات مقاطعة البضائع الإسرائيلية، ودعت إلى التصدّي لجميع أشكال التعاطي مع الصهاينة في المعاملات اليومية، وفُهم سبب التأخر في إطلاق تلك الحملات عن تاريخ توقيع المعاهدة بعدم الحاجة الفعلية إليها سابقًا، إذ أُبرمت الاتفاقات التنفيذية المرتبطة بالمعاهدة بعد مدّة من توقيعها. ويلاحظ متابع نشاط هذه الحملات كيف أدّت المضايقات والملاحقات الأمنية المتواصلة إلى خفوت بريقها خلال السنوات الأخيرة، حتى أنها أصبحت تكتفي بتتبع بعض حالات التطبيع على المستويات الثقافية والرياضية والسياحية والإعلامية والسياسية في الأردن وفي العالم العربي، وتغطيتها بمنشورات محدودة الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي، وإصدار بيانات رفض واستنكار معدودة وفق ما تقضيه الحاجة، وفي مناسباتٍ معيّنة، وبعضها اختفى صوتها أو كاد، (بعد حضور ميداني سابق مشهود له ظلّ صلبًا وثابتًا سنوات مضت). لكن منذ 7 أكتوبر تغيّر كل شيء، إذ عاد حضور تلك الحملات قويًا على وسائل التواصل بمنشورات يومية ومواد إعلامية توضح للجمهور أهمية المقاطعة وضرورتها، وتشرح لهم لماذا نقاطع وماذا نقاطع، وزادت وتيرة دعواتها واتّسع نطاقها، ونشطت بفعاليات دعت إليها على الأرض.

معروفٌ أن القائمين على حملات المقاطعة، ومنها "قاطع عدوك" و"اتحرّك" و"استح" و"الأردن تقاطع BDS" و"الحملة الوطنية الأردنية لإسقاط اتفاقية الغاز مع الكيان الصهيوني"، تحمّلوا صعوبات ودفعوا أثمانًا في سبيل الإبقاء على جذوة فكرة المقاطعة متّقدة طوال هذه المدة، ومعروف أن نشاط هذه الحملات ظلّ يتأثر طوال الوقت بمجريات الأحداث في فلسطين المحتلة. وبقراءة سريعة لنشاط بعض تلك الحملات خلال عام 2023، نلاحظ حجم تأثرها بالعدوان المستمر على غزّة منذ نحو أربعة أسابيع، فمثلًا في حملة "اتحرّك" التي أُطلقت عام 2008، يلاحَظ أن معدّل منشوراتها على حساباتها الرسمية على منصتَي إكس وفيسبوك، منذ بداية العام الحالي وحتى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، كان بمتوسّط مادتين إلى ثلاث خلال شهر، لكن هذا النشاط تضاعف منذ بدء عملية طوفان الأقصى ليصل إلى نحو تسعة أضعاف ما سبق. وكذلك الحال في الحملة الوطنية الأردنية لإسقاط اتفاقية الغاز، إذ بلغ معدّل منشوراتها على حسابها الرسمي على موقع فيسبوك بين سبعة إلى ثمانية منشورات شهريًا قبل 7 أكتوبر، ووصل عددها إلى نحو أربعة أضعاف في الفترة التالية حتى 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الجارية.

زادت وتيرة الدعوات إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية واتّسع نطاقها

توسّعت أخيرا مقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية التي كانت تدعو إليها جميع حملات مقاطعة الكيان الصهيوني في الأردن، لتشمل الدول الداعمة للاحتلال. وفي حين كان تنظيم أنشطة هذه الحملات (عقد للمحاضرات التوعوية ودعوات إلى التظاهرات وإصدار للنشرات وتوزيع للملصقات) مقتصرًا على مسؤوليها، باتت المسألة اليوم أوسع بكثير، ينخرط فيها جميع أفراد المجتمع المؤمنين بجدوى المقاطعة؛ طلابًا وعمّالًا وموظفين، وكتابًا وفنانين ومصمّمين ورسّامين، وأصحاب محال تجارية صغيرة أو كبيرة، وهيئات المجتمع المدني ومؤسساته على اختلاف توجهاتها، بل إنها لم تعد مقتصرة على فكرة الأثر الاقتصادي ونزع الشرعية عن الاحتلال، وصار لها بُعدٌ متعلق بالكرامة الوطنية ورفض الارتهان والتبعيّة للغرب الذي بدأ أفراد المجتمع يعيدون تقييم منظومته الأخلاقية التي ظلّ يبيعنا إياها. ولكن هذا الاستعداد الشعبي الذي انفجر في لحظة واحدة هو، في حقيقة الأمر، ثمرة بذرة زرعتها تلك الحملات سنوات طويلة، وكان لها حرّاس يُحمَد بذلهم وعطاؤهم، قبل أن يأتي طوفان الأقصى ويمنحها الحياة.

اليوم، ونحن نرى هذه الانعطافة في نظرة العربي إلى ذاته أولًا، ثم إلى الآخر؛ العدو وحلفائه، ربما علينا أن نحاسب أنفسنا ونسائلها؛ لماذا لم نتّخذ موقفًا جادًا تجاه هذه المسائل التفصيلية طوال السنوات السابقة؟ وهل كنا نحتاج إلى أكثر من عشرة آلاف شهيد وما يزيد على ألف مجزرة، لنلتفت قليلًا إلى قيمتنا الذاتية وكرامتنا العربية؟ وغدًا بعد أن ينتهي هذا العدوان السافر وغير المسبوق على قطاع غزّة، هل سنعود إلى ما كنا عليه من تراخٍ وعدم اكتراث، أم أننا أدركنا هذه المرّة أن الأمور الصغيرة، إذا ما اجتمعت مع غيرها وتراكمت، تُحدث حالة عامة من الضعف، قد تخلّف كوارث ندفع ثمنها غاليًا من دماء أبناء شعبنا وأرواحهم؟

D88F6515-2641-4B76-9D90-9BDC22B8B5E4
منى عوض الله

محررة ومساعدة باحث لدى مشروع بحث وتوثيق الحركة الوطنية الفلسطينية.