عن التاريخ المغيّب والإرث المنهوب .. قراءة في كتاب "داخل السور القديم"
يفتتح الباحث الفلسطيني بلال شلش كتابه "داخل السور القديم: نصوص قاسم الريماوي عن الجهاد المقدّس"، الصادر ضمن سلسلة "ذاكرة فلسطين"، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2020)، بمدخل ضم سيرة الريماوي، ودراسة تحليلية نقدية لسرديته عن الجهاد المقدّس، تبعته ثلاثة فصول، قدّم فيها نصوص الريماوي الثلاثة التي شكّلت روايته؛ الأول تقريره عن أعمال الجهاد المقدّس في حرب 1947 - 1949، والذي أرسله إلى الحاج أمين الحسيني عام 1949، والثاني مخطوطه عن عبد القادر الحسيني الذي دوّنه في أوائل خمسينيات القرن الماضي، والثالث شمل مقالاته المنشورة في صحيفتي الدفاع (1970) والدستور (1972) الأردنيتين. وقد عني الباحث في هذه الفصول بتحقيق النصوص، وتحليل بنيتها، ومقارنتها بغيرها من السرديات في المصادر الأولية المختلفة، وإضافة التراجم اللازمة للشخصيات الوارد ذكرها في المتون، وضبط تواريخ الحوادث التي تمرّ عليها، وتزويد النص بالصور والخرائط التوضيحية للوقائع التي أتى الريماوي على ذكرها. وأخيرًا، اختُتم الكتاب بملحق وثائقي ضم نماذج للمخطوطات التي تناولها.
يمثل الكتاب نموذجًا لفهم الخطاب السردي في الكتابة التاريخية، معتمدًا تفكيك الروايات، وبحث مواضع الاختلاف والتغاير بينها، حيث السردية هنا وسيلةٌ لفهم ذات المؤرّخ، ودوافعها، وتحولاتها ضمن زمانيتها المحدودة، وفي اتجاهين متوازيين: الأول يتضمن مقارنةً بينية للروايات التي تناولت التأريخ للجهاد المقدس عند قاسم الريماوي وغيره ممن أرّخوا له، من أمثال إميل الغوري وكامل عريقات وعارف العارف؛ والثاني يتتبع فيه الباحث تحولات سردية الريماوي وسيرورتها التصويرية للحدث التاريخي الواحد ضمن سياقات متغيرة على امتداد نحو ربع قرن، ويتلمس التباينات فيها الناتجة عن اختلاف الظرف السياسي والزمان والمكان، محاولًا استخلاص سردية تاريخية متكاملة عن تجربة الجهاد المقدس.
التأريخ للجهاد المقدس
يقدم الريماوي روايته الأولى في تقريره المرسل إلى الحاج أمين الحسيني، وهو تقرير حُجب ولم يُنشر سابقًا، لما تضمّنه من انتقادات وجهها الريماوي للقيادة التي عينها الحاج أمين الحسيني بعد استشهاد عبد القادر الحسيني. وتظهر فيه بوضوح صورة الريماوي المقاتل إلى جانب عبد القادر الحسيني في صفوف الجهاد المقدّس، متضمنة موقفه المعارض لبسط الإدارة الأردنية سيطرتها على الضفة الغربية، ورغبته في تحويلها إلى قاعدة للهيئة العربية العليا وحكومة عموم فلسطين، وهو موقفٌ يمثل انعكاسًا للعلاقات المتوترة بين الملك عبد الله والحاج أمين الحسيني وامتدادًا لها، فيذكر مثلًا حادثة لقائه الأول مع الملك عبد الله، والذي جاء في سياق نقله المتفجرات من اللجنة العسكرية في دمشق إلى قوة الجهاد المقدّس عبر الأردن، إلا أن روايته هنا تبدو مختصرة، يسكت فيها عن تفاصيل المساعدة التي قُدمت إليه من الطرف الأردني، بل ويظهر فيها عداءه للإدارة الأردنية، ورغبته في السكوت عن أي دورٍ من شأنه أن يحسّن من صورة الملك. كما ينتقد بشدة قيادة الجهاد المقدس التي رحبت بقدوم الملك عبد الله إلى القدس، واصطفت لتحيته، في وقتٍ كان فيه الريماوي يعتقل جُباة الضرائب وموظفي الإدارة الأردنية، ويحاول إفشال مؤتمر أريحا ومساعي دمج الضفتين، رافضًا المساومة على هذا الموقف وقبول عروض تولي مواقع مهمة أو وزارية ضمن الدولة الأردنية.
لعل النقطة التي شكلت بداية المنعطف في حياة الريماوي، وأدّت لاحقًا إلى تغير روايته، مخالفته رأي أغلبية أعضاء اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير التي كان عضوًا فيها
وتتّضح مفارقات سرديته في هذه الرواية عند مقارنتها بالرواية اللاحقة التي يقدّمها الريماوي السياسي الفلسطيني الأردني، حيث يثبت فيها مواقف إيجابية للملك عبد الله الأول، مشيرًا في حديثه عن عمليات نقل السلاح إلى التعاون والتسهيلات التي لقيها من مسؤولي النقاط الحدودية والملك نفسه الذي بات يصفه بـ "جلالة الملك" ويخاطبه بـ "سيدنا"، مؤكدًا موافقته على مرور السلاح.
ولعل النقطة التي شكلت بداية المنعطف في حياة الريماوي، وأدّت لاحقًا إلى تغير روايته، مخالفته رأي أغلبية أعضاء اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية التي كان عضوًا فيها، بموافقته على الانضمام إلى حكومة وصفي التل عام 1966، لكن ذروة هذا المنعطف كانت في 1971، حين اغتيل صديقه وصفي التل، في وقتٍ بلغ فيه الصدام أشدّه بين المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني، ثم حين اجتمعت لجنة المتابعة الجماهيرية التي ترأسها نعيم عبد الهادي، في منزل أحمد الشقيري في القاهرة، وكان الريماوي أحد الحضور، فأصدرت بيانًا انتقدت فيه الأخطاء التي مرّت بها التجربة الفلسطينية في الأردن، ودعت إلى عقد مؤتمر وطني فلسطيني عام، وتشكيل لجنةٍ تتولى الاتصال بالتجمعات الفلسطينية.
على خلفية هذا البيان، شنّت الفصائل الفلسطينية حملة ضد الريماوي، الأمر الذي حمله على استحضار تجربة الجهاد المقدّس مجدّدًا، وهذه المرّة دفاعًا عن وطنيته المتهمة، وتأكيدًا لدوره الذي أدّاه في حركة المقاومة. لكن هذه السردية، كما سرديته السابقة، لا تخلو من نسق جواني مضمر، أسهم في تشكيله الظرف التاريخي الجديد، على الصعيدين، الشخصي والعام، وهو نسق يتضمن مخيالًا روائيًا أعاد إنتاج سيناريوهات متساوقة مع محيطه الجديد، حيث سعى الريماوي إلى إثبات دوره النضالي في مقالات نُشرت في صحيفة الدستور الأردنية بين 7/8/1972 و18/12/1972، معيدًا التذكير بتاريخه المجيد في معارك الجهاد المقدّس، وكأنه يحاول إثبات أسبقيته في الجهاد الفلسطيني أمام الحملات التي شُنت عليه.
ترتبط الروايات المتعلقة بحرب 1947-1949 بالنتيجة التي آلت إليها، حيث حققت الحركة الصهيونية في نهايتها مكتسبات مهمة لها
إلى جانب هذه الرواية، يتناول الكتاب سرديات إميل الغوري وكامل عريقات وعارف العارف مقابل سردية الريماوي، مشيرًا إلى مواضع اتفاق هذه الروايات ومواضع اختلافها، كما في خلافهم على مركزية دور الحاج أمين الحسيني والهيئة العربية العليا في تأسيس الجهاد المقدس، وعلى الأدوار التي أداها ثلاثتهم؛ الغوري وعريقات والريماوي، في الثورة، ما يعكس صراعًا على الإرث التاريخي لحرب 1947- 1949 الذي يرى شلش أنه إرثٌ مؤسِس، يسعى عديدون إلى الاتصال به، فكان ما دوّنه بعضهم، ومنهم الريماوي والغوري وعريقات، "محاولة لاستحضار هذا الإرث في صراع آني مرتبط بمواقف شخصية". وهو ما يرى شلش أنه حاضر اليوم أيضًا في روايات التنظيمات الفلسطينية لاحقًا، الساعية إلى إثبات شرعيتها التاريخية بالإعلاء من دورها وتقزيم دور خصومها، الأمر الذي يحتّم على الباحث لزوم الحذر عند اطلاعه على الروايات التاريخية، أيًا كان مصدرها. وفي الوقت نفسه، يحتّم عليه احترام جميع تلك الروايات، لما تحمله من وجهات نظر مختلفة، لا تخلو من وجاهةٍ بالنسبة إلى أصحابها.
بشكل أو بآخر، يعيدنا كتاب "داخل السور القديم" إلى رأي المؤرخ الأميركي، هايدن وايت، في الكتابة التاريخية بأنها تمثل نوعًا من "الميتا تمثيل"، إذ يلتقي هذا الصنف من الكتابة مع السرد التخيلي في أن كليهما يحيلان إلى الزمانية، مع فارق أن السرد التخيلي يحيل إلى حوادث متخيّلة، بينما تحيل الكتابة التاريخية إلى وقائع حقيقية. والإحالة إلى الزمانية هنا تعني أن النص المكتوب محكومٌ بظرفه، لكن حتمًا من دون تجميده في زمن تدوينه، حيث إن استعادة النص بنقده في الزمن الحاضر، كما يفعل بلال شلش في كتابه، تعني حضوره في العالم اليوم.
التاريخ المؤسس على الذاكرة كما يكتبه المهزومون
ترتبط الروايات المتعلقة بحرب عام 1947 - 1949 بالنتيجة التي آلت إليها، حيث حققت الحركة الصهيونية في نهايتها مكتسباتٍ مهمة لها، ما جعل أبناء التجربة "ينظرون إلى فعلهم بكثير من التبخيس"، إذ تبرز الأسئلة بشأن أسباب الهزيمة ومسبّبيها، ما ينتج نوعًا من الكتابة تتسم بالدفاعية أو الهجومية الساعية إلى تبرئة الذات من التقصير، والباحثة عن إجابات عن تلك الأسباب. والنصوص التي هي على هذه الشاكلة تقودنا إلى أسئلة من نوع؛ ما هو الدور الذي تؤدّيه السردية التاريخية؟ وهل يُفترض بها التموقع ضمن لحظة تاريخية محدّدة، هي لحظة توثيق الواقع، أم أنها تمتلك مشروعية إعادة تشكيل ذلك الواقع في سياق تطور العلاقات التي تربط بين المؤرّخ والواقع والسردية؟ وكتاب "داخل السور القديم" يفتح بابًا واسعًا لمثل هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى حول التأريخ للفعل العسكري الفلسطيني خلال حرب 1947 - 1949؛ ظروف الحرب، وأسباب الهزيمة، والموقف العربي وتجاذباته، ونزاعات القيادات الفلسطينية وخلافاتها.
يسعى شلش في مشروعه لتوثيق الفعل العسكري الفلسطيني إلى "البحث عن الرواية المغيبة والمهملة، ومحاولة إعلاء صوت المقاتل المحلي المغيّب
يجترح بلال شلش، في أبحاثه، نهجًا جريئًا في كتابة التاريخ، يتسم بالمكاشفة والشفافية التي تقترب من دائرة النقد الذاتي، بالبحث في الأخطاء التاريخية والتأريخية للحركة الوطنية الفلسطينية، وتحليلها، والاستفادة من دروسها، وهو ما يُلمح في كتابه التي تعتني به المقالة، ومن قبله كتاب "يافا دم على حجر" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019) الذي يصف شلش مادته بأنها نوع من "المراجعات الذاتية في ظل النار، صيغت من وحي المعارك اليومية وتطوراتها"، في محاولة منه لتتبع "تطور نظرة الفلسطينيين لأنفسهم ودورهم في الحرب، والذي قادهم في النهاية إلى تأسيس المنظمات الوطنية".
يشير شلش إلى اهتمامه، في مجمل بحوثه، بنقد التراث المرتبط بذاكرة الهزيمة، محاولًا تقديم "قراءة واعية تبرز سياقات هذه النصوص ودوافعها وتحولاتها". ونص الريماوي أحد تلك النصوص التي تعيد إنتاج الحدث الماضي بعين الحاضر، إذ تبدّلت القيود الظرفية التي احتكمت إليها سرديته السابقة لتحل محلها قيود ظرفية جديدة، فرضها واقع جديد تبدلت فيه الوقائع والتحالفات والصراعات، وهو ما قد يُفهم في الحالتين بأنه محاولة لخلق نوع من التفاهم والتوافق بين ذات المؤرخ ومحيطه المتغير، فتجربة الريماوي متضمَّنة في سرديته التاريخية بتحولاتها، وهو ما يفسر تغيّر هذه القراءة ضمن ثنائية الإسكات والإثبات التي أشار إليها المؤلف في التدليل على تلك التحوّلات التي تربط السردية بسياقاتها التاريخية والاجتماعية. وليس الريماوي، كما يشير شلش، حالة شاذّة في ممارسته تلك الثنائية، فهذا ما "يمكن ملاحظته لدى الأفراد كما الجماعات والهيئات"، لكن ما يميز الريماوي أنه أعاد تدوين روايته مرة ثانية، وأننا تمكّنا من الحصول على نصوص تلك الروايات.
من هنا، يسعى شلش في مشروعه إلى توثيق الفعل العسكري الفلسطيني إلى "البحث عن الرواية المغيبة والمهملة، ومحاولة إعلاء صوت المقاتل المحلي المغيّب بتغييب المادة الأساسية التي تبرزه بفعل ظروف الحرب أولًا، وسرقة جزء أساسي من الوثائق العربية، وبفعل سياسة الرقابة الممارسة على الأراشيف، سواء أكانت أراشيف منظمات وجمعيات أم أراشيف عائلية ومحلية"، وهو تغييب شمل، إلى جانب الدرس الأكاديمي، الكتابة التاريخية المحلية التي توثق للشخصيات والأماكن. وضمن هذا المشروع التوثيقي، الممتد زمانيًا ليشمل حرب 1947-1949 وما بعدها، قدّم شلش سابقًا كتابه "يافا دم على حجر"، وأتبعه بكتاب "داخل السور القديم"، وهو منكبٌّ اليوم على مشروعه التالي الذي يضيء فيه على "التفاعلات المحلية مع الاحتلال"، من خلال مذكّرات رئيس بلدية نابلس الأسبق، حمدي كنعان.