عن حسام زُملط والفيلّا وسط الغابة

12 أكتوبر 2023
+ الخط -

ليست زلّة لسان ليعتذر عنها وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، وهو لم يعتذر أصلاً، حين وصف الفلسطينيين بـ"حيوانات بشرية"، بل جزءٌ تأسيسي من نظرة الإسرائيليين إلى "الغوييم"، أو الأغيار الذين علينا أن نفرض عليهم حصاراً كما في حالة غزّة حالياً، ونقطع عنهم الكهرباء والماء والطعام والوقود، أي أن نتركهم حتى يموتوا بالقصف أو بتدابيرنا... هذه عنصرية في أسوأ تجلياتها، ولم تأتِ من فراغ، فإسرائيل، وفق منطوقها، هي الفيلّا في الغابة، والتعبير لإيهود باراك، رئيس الوزراء السابق الذي اكتشف، مع اقتراب إسرائيل من عامها الثمانين، أن من يهدّد وجودها وقد يقوّضها ليسوا الأغيار، أي الغابة، بل سكّان الفيلّا نفسها.

سبق أن استخدم التعبير نفسه الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، قبل أن يعتذر عنه، لعنصريّته الفجّة، فنحن حديقةٌ وسط غابة، وهذا تعبيرُه، في ردّه أو توصيفه لوضع الغرب بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. وربما يعود الوصف الذي استخدمه باراك وبوريل إلى استعارات الشاعر البريطاني الغني عن التعريف، رديارد كيبلينغ، في مجموعته القصصية "كتاب الأدغال".

وأياً كان تاريخ التعبير واستخداماته، فإنه يكشف عن عوار المركزية الغربية التي ترى نفسها فوق الآخرين وأعلى قيمةً وأسمى، فالآخر بدائي وغير متحضّر، وهو موضوع الفعل لا فاعلُه، وعلى الغرب قيادتُه حتى لو اضطرّ لتأديبه أو حتى إبادته، فهو عملياً أقلّ من أن يكون إنساناً مثلنا، فهو بتعبير وزير الدفاع الإسرائيلي حيوان بشري. والحال هذه، فإن التعامل بغلظةٍ معه أو حتى بعنف متطرّف وقتله، مبرّر ومشروع، للحفاظ على الفيلّا وقاطنيها.

عندما أصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، تحدّث عن تلك الحرب التي تجري "هناك"، حيث الصحراء و"الرمال الكثيرة" كما قال، وكان يقصد سورية، فإذا كانت سورية كذلك فماذا كان يمكنه أن يصف صحراء الربع الخالي، فالعالم خارج الفيلّا غابة أو صحراء. ومن المؤسف أن تثوي رؤى كهذه في لاوعي الخطاب الغربي عموماً، حيث الاختزال والأحكام التبسيطية القائمة على الثنائيات، لتبرير التعامل مع الآخر الذي عليه أن يدفع الثمن، لتبقى الفيلّا في منأى من الغزو وتعكير مزاج ساكنيها.

يأتي السفير الفلسطيني في بريطانيا، حسام زُملط، أخيراً، لتفكيك هذا الخطاب. والرجل فاجأ المتابع العربي، بل أصابه بصدمة إيجابية إذا شئت، فجرى تداول فيديوهات مقابلاته مع "سي أن أن" وسواها على نطاق واسع، بحيث بدا كأنه الناطق العربي الشرعي الوحيد في مواجهة أطنان التصريحات الهلعة على مصير إسرائيل من "غزو" حركة حماس. وبالمناسبة، كان زملط ممثلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية لدى واشنطن (سفير) قبل أن تلغي إدارة ترامب تأشيرة إقامته، بعيد قرارها نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس... ماذا فعل زملط ليحظى بهذا الإعجاب منقطع النظير؟ ضربَ فكرة الفيلّا وسط الغابة في عمقها، فسائلوه يقطعون أو يعزلون ما يحدث في غزة اليوم عن سياقه، ويفترضون أن عليك أن تكون مثلهم، ولو كنتَ كما يريدون فإن "حماس" تكون هي المعتدية لا إسرائيل. وما فعله الرجل أنه أوقف تلك الدائرة من بداياتها، فالمقاربة مُجحفة من أساسها، فأنتم تعزلون حدث اليوم عن سياقاته العريضة، وهي معقّدة، وعليكم أن تسمعوا وأن تعوا، لا أن تتعذّروا بضيق الوقت، فذلك لأنكم تريدون أن تختزلوا الصراع في خير وشر، في فيلّا وغابة، وإذّاك من الطبيعي أن تبدأوا بلوم الضحية، وأن تساووا بينها وبين جلّادها، وهذه وتلك تنتهيان بنا وبكم إلى الانتصار لإسرائيل - الفيلّا التي تهدّدها الحيوانات البشرية من كل حدب وصوب.

لا يحبّ كاتب هذا المقال أن يقتبس من المتحدّثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، لأن ردودها محكومةٌ بمواقف بلادها، وكثير من ردودها يستند إلى بديهياتٍ يجري تكييفها وليّ عنقها للدفاع عن الحرب الروسية في أوكرانيا. ورغم ذلك، كانت موفقة حين ردّت على جوزيب بوريل، حين استخدم تعبير الحديقة المُحاطة بالغابة، وذكّرته بأن أوروبا أنشأت تلك الحديقة من خلال النهب البربري للغابة التي استعمرتها، وهو ردٌّ شبيه بخطاب زملط التفكيكي، فإسرائيل/ الفيلّا قامت على احتلال أراضي أولئك الذين تريدون مني أن أدينهم. أوقفوا الاحتلال إذا أردتم أن تنتهي المشكلة. نقطة آخر السطر.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.