سمسار الدم على معبر رفح
كتب أحد الغزّيين، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، على حسابه في "إكس" عن اضطرار عائلة غزّية من 11 فرداً لدفع 50 ألف دولار للسلطات المصرية لتؤمّن خروجهم عبر معبر رفح. وبحسب المدوّن نفسه، وصلت الأسعار، بعد ذلك، إلى سبعة آلاف دولار للشخص الواحد. ونقل (م. ح)، في مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، عن صديق غزّي قوله إنّ المصريين (ويقصد السلطات)، طلبوا عشرة آلاف دولار لتأمين خروج والدته إلى مصر للعلاج.
القصّتان أعلاه، ليستا سوى نزر قليل جداً من آلاف القصص التي كتبها غزّيون عن تجاربهم المريرة للخروج من معبر رفح، وهناك مئات من القصص الأخرى عن الإهانات والتقييدات التي تعرّض لها الغزّيون بعد وصولهم إلى مصر، وما فعلوا ذلك على سبيل السياحة، بل للعلاج أو للنجاة بحيواتهم وذويهم.
لكن، من أين يأتي بعض الغزّيين بالمال لتأمين خروجهم إلى مصر؟ ليس الغزّيون متسولين بالمناسبة، فقد كان تجارتهم قبل عام 1948، مثل باقي مدن الساحل الفلسطيني، تصل إلى دول ساحل البحر الأبيض المتوسّط الأوروبية. وهم، قبل هذا وبعده، من الشعوب العاملة والمكافحة، وفيهم الغني والفقير، لكنّهم يتساوون أمام مدحلة القتل والإبادة، ما يدفع بعضَهم إلى بيع أصوله العائلية من ذهب الزوجات، أو الاستدانة عبر الحدود، لتأمين تكلفة الخروج، مُجرّد الخروج، والوصول إلى مصر، التي كانت سلطاتها قبل توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1078)، تدفع رواتب شهرية للطلاب الغزّيين في جامعاتها.
باستثناء مواطني دول الخليج، فإنّ العربي الميسور وليس الثري، هو الذي يدّخر بضعة آلاف من الدولارات لشراء سيارة أو لتأمين دراسة أبنائه، فالمال لا نجده في الطرقات في دول المنطقة أو غيرها، فما بالك بشعبٍ محاصر، وليس لديه مُتنفّس سوى معبر لا يزيد عرضه عن 20 متراً.
هناك من لا يأبه بهذا، وهؤلاء يديرون تجارة الدم على معبر رفح، ويتحدّثون عن تأمين خدمات خروج مميّزة (VIP) للغزّيين، تشمل التنقّل بسيارات "بي إم دبليو" فاخرة، ما يقتضي دفع الغزّيين لهذا المبلغ الكبير، ويزيدون بالقول إنّ المسألة عرض وطلب في نهاية المطاف، لتبرير زيادة المبالغ التي يطلبونها من الغزّيين (اقرأ كلام إبراهيم العرجاني في تحقيق "نيويورك تايمز" عن الموضوع؛ 20 يونيو/ حزيران الجاري).
ليس هذا صحيحاً، قبل أن يكون شائناً ولا يليق بمصر ولا شعبها، وللأسف، من كان يتقاضى مالاً من الغزّيات الصابرات مقابل استخدام الكراتين التي كنّ يجلسن عليها في معبر رفح في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، أصبح حالياً شركة كبرى، لها مجلس إدارة وجيش من الموظّفين الذين يقومون بشيء واحد فقط، ابتزاز الغزّيين، وكسرهم نفسياً، وسلبهم أموالهم، لتأمين مُجرّد خروجهم من المعبر.
من يدير تجارة الدم والإذلال، هذه، مُجرّد زعيم قَبَلي. ليس رئيساً أو حتّى زعيماً لحزب شعبوي مثلاً، ورجل هذا شأنه، أصبح يتحرّك في تنقّلاته ضمن موكبٍٍ من السيارات الفخمة، ويُحاط بمسلّحين، وتُقال فيه القصائد والأغاني. وهذه ليس مزحة ولا فقرة في رواية من روايات الواقعية السحرية، بل إقرار لحقيقة أنّ هناك من غنّى فعلاً لهذا الشخص (إبراهيم العرجاني) متحدّثاً عن شجاعته وسجاياه، وهو في الأغنية "عالي المقام" و"سبْع" و"ضرغام".
أين هي الدولة والحال على ما وصفناه آنفاً؟... هذا ليس سؤالاً في المنطقة العربية، فالجميع يعرف آليات التحكّم والسيطرة التي تقتضي إيجاد وكلاء يقومون بالأعمال القذرة، بالنيابة عمّن صنعهم، ونفخ فيهم من روح سلطاته، فالمُشار إليه لو لم يكن جزءاً من منظومة الحكم، لما كان أكثر من زعيم قبيلة عابرة للحدود (الترابين)، وأغلب أفرادها كانوا يعيشون في منطقة النقب في فلسطين، بحسب الرحّالة وعالم الآثار الألماني ماكس فون أوبنهايم، ويتوزّع أفرادها بين سيناء والنقب والعقبة (جنوب الأردن). ولم يعرف هؤلاء نفوذاً في تاريخ مصر الحديث على الأقلّ، باستثناء ما يتمتّع به حالياً العرجاني، الذي سبق أن سجنته السلطات في عهد مبارك قبل أن يصبح أداةً للسلطات في العهد الحالي، لمحاربة ما يوصف بالإرهاب، ما جعله حاجة لهذا النظام، ولا بأس من شركاتٍ تنشأ وتتوسّع أعمالها عبر الدول تحمل اسمه، ما دامت أرباحُها تصل إلى جيوب الشركاء وهم آمنون... هذه ليست مصر التي كنّا نعرفها ويعرفها ناسُها ومواطنوها.