عن جريمة الطعن في المدينة الألمانية

28 اغسطس 2024

رجل يشعل شمعة قرب موقع جريمة الطعن في مدينة زولينغن غرب ألمانيا (26/8/2024 Getty)

+ الخط -

بحسب تقرير منشور في صحيفة بيلد الألمانية، أحصت الشرطة الاتحادية الألمانية 373 جريمة باستخدام سكاكين في محطّات القطارات الألمانية خلال النصف الأول من العام، مقابل إجمالي 639 جريمة من هذا النوع في العام الماضي 2023. ولم تعد هذه الجرائم، أو حوادث الطعن في الواقع، تقتصر على محطّات القطارات، بل تعدتها إلى فضاءات أخرى، جديدها أخيراً ما وقع مساء يوم الجمعة 23 أغسطس/ آب، في "مهرجان التنوّع" في مدينة زولينغن الألمانية، في الذكرى الـ650 لتأسيسها، إذ هاجم رجل في فونهوف، وهو سوق في وسط المدينة، حيث أقيم مسرح لتقديم عروض موسيقية، مكان الاحتفال وطعن الحاضرين في رقابهم بالسكين، ما أدّى إلى مقتل ثلاثة أشخاص، امرأة ورجلين، وإصابة ثمانية بجروح. وقالت دوائر في الشرطة إن المنفذ طعن ضحاياه بالسكين في الرقبة. ولهذا السبب يصنف المحققون الجريمة بأنها هجوم إرهابي، ولم تعد مجرد عملية طعن عشوائي.

قبل أن تقدّم الشرطة أو التقارير الرسمية أي معلومات عن منفّذ العملية، الذي تبين لاحقًا أنه شاب سوري دخل ألمانيا في العام 2022 سلّم نفسه، ذكرت صحيفة بيلد على موقعها الإلكتروني، مباشرة بعد وقوع الهجوم، إن البجاني، "بحسب إفادات الشهود"، "رجل ذو مظهر عربي...". وهذا التصريح في صحيفة واسعة الانتشار كم سيشعل النزعات العنصرية ضدّ العرب والمسلمين، في لحظة كهذه، بالغة القسوة والعنف والإجرام؟ وفي وقت ترتفع فيه حدة الأصوات المناهضة للمهاجرين واللاجئين، وتتسع رقعة المؤيدين للأحزاب اليمينية في ألمانيا، وغيرها من دول أوروبية، ما أدّى إلى جعل هذه القضية في مقدّمة أولويات الحكومات، وأهم بنود البرامج الانتخابية، لكونها قضية رأي عام يتمسّك بها قسم كبير من الشعوب الأوروبية.

أصبحت ظاهرة الهجوم والقتل بالسكين شائعة في ألمانيا وعموم أوروبا، وهي تزداد بكثافة لافتة، في وقت تقف فيه الحكومات مرتبكة وعاجزة عن اجتراح قوانين تحاصر هذه الظاهرة وتحدّ منها وتقلل من خطورتها على أمن المجتمع.

أصبحت ظاهرة الهجوم والقتل بالسكين شائعة في ألمانيا وعموم أوروبا، وهي تزداد بكثافة لافتة

في الوقت نفسه، تنقلب هذه العمليات وبالًا على القسم الأكبر من اللاجئين والمهاجرين، المتحدرين من الدول العربية والإسلامية، وبعض الدول الأفريقية، إذ لا يمكن إغماض العين عن ترسيخ مفهوم شمال العالم وجنوبه، وتوسعة الفجوة بينهما. كذلك لا يمكن فك الارتباط بين هذه العمليات الإرهابية وما يحصل في دول عربية وإسلامية عديدة، وفي الحرب الحالية في غزّة التي تخطّت كل القوانين والأعراف والقيم الإنسانية. ولا يمكن أيضاً النظر إليها على أساس أنها ظاهرة انبثقت من العدم، من دون تربة خصبة نمت فيها وتغذّت هذه الأفكار عقوداً، استثمرت في الشارع الإسلامي، ورسخت أفكاراً عقائدية تنهى عنها الشريعة الإسلامية الحق، مثالها الأكبر الحركات الإسلامية الأصولية، مثل القاعدة وداعش وجبهة النصرة، بل جرى دعمها وترويجها على أنها شكل من أشكال الجهاد، فهناك تسجيل صوتي لأبي محمد العدناني، الناطق باسم "داعش"، في عام 2014، يدعو فيه المتعاطفين مع التنظيم إلى "القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ، من دون العودة إلى قيادة (داعش)"، كما بثّ التنظيم في ديسمبر/ كانون الأول 2016 مقطع فيديو شرح فيه طريقة استخدام السكاكين في القتل، والمواضع التي يجب تركيز الطعن فيها، وأفضل أنواع السكاكين ومواصفاتها.

هذا الخطاب، وهذا الأسلوب في الدعاية والإشهار، كم يفعل فعله في عقول الشباب الجامحين، معظمهم مقهور ومهزوم في حياته ومشروعه الحياتي، ولم يعد يرى ملاذاً لروحه غير الدين، فيتلقّفه دعاة من هذا النوع؟ لو أجرينا إحصاء عن عدد الهجمات الإرهابية التي فجّر بها انتحاريون أنفسهم، ليحصدوا أكبر عدد من المدنيين، في الدول الأوروبية، أو أشخاص منفردون يحملون السكاكين، خلال العقدين الأخيرين، لوجدنا أرقاماً كبيرة، حصدت أرواحاً مدنية كثيرة في أرض ليست أرض "جهاد". ولو عدنا إلى الأرقام الإحصائية المذكورة في بداية المقالة عن هذه الجرائم في ألمانيا لوجدناها مروّعة، وهي تزداد باضطراد. لكن لماذا السكين؟

373 جريمة باستخدام سكاكين في محطّات القطارات الألمانية خلال النصف الأول من العام، مقابل إجمالي 639 جريمة من هذا النوع في العام الماضي

للسكاكين أنواع كثيرة، وهي من أهم أدوات المطبخ لدى الإنسان منذ آلاف السنين، ولقد جرى تطويرها والتفنّن بها تاريخيًا لدى غالبية الشعوب لأغراض متعدّدة، بل منها ما يتبدّل على المائدة بحسب الطعام المستهدف. لذلك نرى أن هناك سكين الشيف، وسكين الجزار، وسكين التقشير، وسكين نزع العظم، وسكين الفيليه، وسكاكين متعدّدة الاستعمالات، وغيرها، وهناك سكاكين تحمل صفات تختص بثقافة الشعوب، من حيث الشكل والنوعية وطريقة الصنع، فتصنف على هذا الأساس، كالسكاكين الصينية، والأوروبية، واليابانية، وغيرها. فهل يستطيع الإنسان العيش من دون السكين؟ بالطبع لا، إنما هذه السكين الضرورية للحياة تصبح أحيانًا من أبشع أدوات القتل وأمكرها. وفي استخدامها في القتل، فإن أهم صفة لها أن تكون حادة، غالبًا بنصل مدبب ينفذ بسهولة في الجسم المستهدف.

لا يمكن إغفال أهمية السكين سلاحاً في الثقافة العامة والموروث الشعبي لدى مجتمعاتنا، فغالباً ما ينفذ معظم ما تُدعى جرائم الشرف بالسكين، بالذبح، هذه الجرائم التي ازدهرت في العقد الأخير، حتى الجرائم الجنائية الأخرى تنفذ بالطعن، صار من المتاح أمام جمهور واسع الاطلاع على أخبار جرائم من هذا النوع، فمنصات التواصل الاجتماعي تتلقف الأخبار وتعرض صوراً وفيديوهات عنها مباشرة، قبل الإعلام التقليدي. وإذا تمعنّا في التعابير الشائعة لدى الغالبية من شعوبنا، فإننا نرى أن كلمة "الذبح" مستخدمة بكثافة، في التهديد والوعيد، وغالبًا ما يُقال في مغالاة في التعبير عن مفهوم العرض والعفة، عن النساء اللواتي يتهمن بالنشوز "والله بدبحها"، أو "والله لآدبحها"، وكلمة الذبح ترددت كثيرًا لفظًا وتطبيقًا في الحرب السورية، عندما كانت داعش تصور قطع الرؤوس وتبثها، كذلك في أغانيها "بالذبح جيناكم". وإذا أراد أحد ما أن يهدد آخر يقول له، أو يرسل إليه رسالة عن طريق الآخرين: "أذبحه من الوريد إلى الوريد".

هذه اللغة العنفية متأصلة في الثقافة السائدة لدى شعوبنا، ومن أجل تطبيقها كنوع من الرافعات القيمية، فإن حمل السكين يصبح ضرورة وأمرًا يرتبط بمفهوم "الرجولة"، فنرى أن كثيرين يحملون معهم أنواعًا معينة من السكاكين، خاصة تلك التي تطوى "المطواية"، وفي العراك الذي ينشب فجأة ويكبر ويتضخم بسرعة هائلة، نرى أن المتعاركين يشطبون بعضهم بعضًا بالسكاكين.

مع ازدياد هذه الجرائم تزداد اضطرادًا كراهية المسلمين والعرب

أمام هذا الزخم المتزايد من حوادث الطعن في ألمانيا، تحتار الحكومة الحالية في القوانين التي عليها ابتداعها لمواجهة هذه الظاهرة، حتى أن وزيرة الداخلية اقترحت اقتراحًا لاقى كثيرًا من السخرية في البداية، لكنه على ما يبدو وضع على طاولة النقاش، وهو أن يحدد طول نصل السكين المسموح حملها بستة سنتيمترات، في الواقع هو اقتراح لا يغير أبدًا في المشكلة، إذ لا يمكن مراقبة كل الناس في بلد يقطن فيه أكثر من ثمانين مليون نسمة، كذلك فإن السكين هو سلاح الإرهاب السهل، خاصة أن من السهل التدرب عليه، كذلك هناك ألعاب إلكترونية تقوي هذه المهارات، فالمنفذ يقوم بضربات خاطفة ينفذها بشكل فردي ثم يلوذ بالفرار في غالب الأحيان.

هذه الظاهرة الخطرة والمرفوضة، يقوم بها شباب مسلمون في الغالبية العظمى من الحالات، من الضروري أن يكون للدول العربية والمسلمة دور فاعل في مكافحتها، ببتر جذورها قبل كل شيء، والتصدّي للدعاة الذين يستغلون عقول الشباب باسم الدين، في تفسير أعمى للنصوص وأحكام الشريعة والفقه. تجفيف منابع الإرهاب ضروري، وغرس الفكر القائم على الحوار والاحتجاج السلمي أمر ملحٌّ وهام، فمع ازدياد هذه الجرائم تزداد اضطرادًا كراهية المسلمين والعرب، بعدما حصدوا تعاطفاً كبيراً لدى الشعوب بسبب ما يجري في بلدانهم، وبعدما حصد أهل غزّة تعاطف شعوب الأرض قاطبة، هذه لحظة تاريخية يجب استثمارها بعيدًا من الأنظمة وسياساتها القائمة على المصالح المشتركة.

ما ذنب السكين إذا وقعت في يد شخص مغسول الدماغ، يشعر بظلم العالم له؟ إنه ليس السكين، بل من يروّجون هذه الثقافة العنفية باسم الشريعة والدين، بينما الدين منهم براء.