عن تفاعل قمم يوليو مع قضايا الحرب والسلام
حظيت قضايا الحرب والسلام في منطقتنا وفي العالم بقدر من الاهتمام في قمم جدة أخيرا، إذ تركز الاهتمام على الحرب في اليمن التي تقترب من إتمام عامها السابع، وهو أمرٌ مفهوم ومقدّر، نظرا إلى طول أمد هذه الحرب، وإلى مكان انعقاد القمم. أما قمة طهران الثلاثية، والتي جاءت ردا على قمم جدة، فقد جاء اهتمامها بقضايا الحرب والسلام مبتسرا وانتقائيا، إذ انحصر الاهتمام بالوضع في شمال سورية وتفادي مواجهة عسكرية بين القوات التركية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية، مع التفاتة إلى عموم الوضع السوري، بما يتفق مع الرؤيتين الإيرانية والروسية إلى هذا الوضع، فقد انتهت جولة الرئيس الأميركي، جو بايدن، في منطقتنا بتجديد التحالف الأميركي الإسرائيلي، وتعظيم أوجه التعاون بين الجانبين، وذلك في أجواء عاطفية لم يتمكّن خلالها الرئيس الزائر من حبس دموعه، وهو يتمنطق بالقبعة اليهودية الإسرائيلية في متحف الهولوكوست. وخلال ذلك، نشط بايدن في مساعي بناء منظومة أمنية (عسكرية) في المنطقة، بمشاركة إسرائيلية نشطة وبرعاية أميركية. علاوة على مساعيه إلى زيادة إنتاج النفط تعويضا عن النفط الروسي المحظور، وبما يرضي الناخب الأميركي قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس. فيما عرض الرجل، في اثناء لقائه الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، في بيت لحم مشاعره الطيبة تجاه حل الدولتين مع تأسّيه على "الظروف" التي لا تخدم التقدّم نحو هذا الحل، مع إعلانه التبرّع بمائة مليون دولار للمستشفيات الفلسطينية في القدس. وكان حسنا أن المسؤولين الأميركيين لم يتذرّعوا بالظروف في إعلانهم الالتزام بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس (تصريح المتحدث باسم الخارجية نيد برايس)، وهي خطوة رمزية على جانبٍ من الأهمية، لكنها ليست خطوة فاعلة في هذه "الظروف"، وذلك مع حجب الأفق السياسي لحل الصراع، ومع حرمان أغلبية أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة من الوصول إلى المدينة المحتلة للإفادة من خدمات القنصلية أو لاستضافة اجتماعات فلسطينية أميركية في مقر القنصلية. كل ذلك مع التنويه إلى أن الجانبين الأميركي والفلسطيني فشلا في إعداد بيان مشترك عن الزيارة، بسبب تباعد المواقف، ولاستنكاف الأميركيين عن اتخاذ أية خطوة عملية لكبح الاستيطان والتنكيل الجماعي، ولحمْل الإسرائيليين على العودة إلى التفاوض.
بخلاف مروحةٍ واسعة من الانشغالات في جولة بايدن والقمة الأميركية ــ العربية، جاءت قمة طهران الثلاثية بين زعماء روسيا وتركيا وإيران بأجندة محدودة
وقد جاء اجتماع بايدن بتسعة مسؤولين عرب في جدة، وتحت عنوان قمّة الأمن والتنمية، لطمأنة الجانب الخليجي والعربي بشأن الموقف من الاتفاق النووي، والتهديدات الإيرانية عموما، والتشديد على الشراكة الأميركية ــ الخليجية، ومع التغنّي الأميركي بأوجه التعاون المطردة بين دول المنطقة، والضغط من أجل إنهاء الحرب في اليمن. وفي مؤتمر صحافي عقب القمة، قال وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، إن المحادثات مع إيران لم تصل إلى هدفها، وإن اليد ما زالت ممدودةً لها. وأفاد الوزير بأن القمة لم تناقش أي تحالف دفاعي مع إسرائيل، ولا يوجد ما يسمى "ناتو عربي"، مؤكّدا أن لا علاقة لفتح المجال الجوي بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وليس مقدمةً لخطوات أخرى. وهذه أفضل إشارة سعودية حتى تاريخه على الامتناع عن الانضمام إلى ركب التطبيع السياسي مع دولة الاحتلال. إلى جانب ذلك، أطلق كل من الملك عبدالله الثاني وأمير دولة قطر في القمة مواقف تناصر الحقوق الفلسطينية، وتطالب بفتح الطريق نحو سلام يتماشى مع الشرعية الدولية. وقد لوحظ أن قمة جدّة تجنّبت الإشارة إلى الحرب الروسية على أوكرانيا، باستثناء إشارة إلى التعاون لـ "معالجة الآثار الاقتصادية السلبية لجائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، وضمان مرونة سلاسل الإمدادات"، إذ تتفادى الدول المجتمعة التعبير عن موقفٍ علني بخصوص هذه الحرب، رغم تشديدها على الحلول السلمية للنزاعات.
بخلاف مروحةٍ واسعة من الانشغالات في جولة بايدن والقمة الأميركية ــ العربية، جاءت قمة طهران الثلاثية بين زعماء روسيا وتركيا وإيران بأجندة محدودة، تتعلق بالوضع في شمال سورية، ما يعزّز الاعتقاد أن توقيت عقد هذه القمة هو الأهم، إذ عقدت ردا على جولة بايدن، وعلى تنامي العلاقات الأميركية المتشعبة في المنطقة. ومن الواضح أن موسكو هي من بادرت إلى اقتراح عقد هذه القمة، عشية توجّه بايدن إلى المنطقة، إذ كانت أول من أعلن نبأ القمة، وفق تصريح الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، يوم 12 يوليو/تموز الجاري. وقد اختارت موسكو العودة إلى الساحة الدولية من خلال البوابة الإيرانية، فيما ترحب طهران بعقد هذه اللقاءات على أراضيها لفكّ العزلة حولها. وقد شاءت موسكو، ومعها حليفتها طهران، عقد هذا اللقاء لحمل أنقرة على عدم خوض مواجهة عسكرية مع "قسد" في شمال سورية. وجاء البيان الختامي حاملا على "قسد"، وعلى مشروعها "الانفصالي"، بما يخدم التوجهات التركية، ولكن في مقابل الحملة على "كل التنظيمات الإرهابية". ومعلوم أن موسكو تستثني مليشيات إيران من هذا التصنيف، فيما تصف جميع قوى المعارضة بالإرهاب.
تسعى القيادة الروسية إلى إضعاف الاهتمام بما يجري في أوكرانيا، ودفع العالم إلى أن يعتاد على التعامل معها
لم يتطرّق البيان المشترك إلى الحرب على أوكرانيا، علما أن المتحدث باسم الكرملين أفاد بأن مباحثات روسية تركية سوف تجري على هامش القمة الثلاثية حول "العملية العسكرية". والراجح أن مباحثاتٍ ثنائية قد عقدت، وأن نتائجها بقيت طيّ الكتمان في هذه الآونة، وأن موسكو سوف تبدي بعض المرونة في مسألة تصدير الحبوب، إذ يسعها أن تحقق جملة فوائد من ذلك، في مقدمتها إشاعة الانطباع أن الحرب على أوكرانيا لا تشكل خطرا على الأمن الغذائي العالمي، وأنه ليس هناك، بالتالي، ما يثير القلق، وأن الاهتمام ينبغي أن يتركّز على مسائل مثل تصدير الحبوب، وليس على وقف الحرب. وبالمشاركة في هذا اللقاء الثلاثي خارج روسيا، فإن القيادة الروسية تسعى إلى إضعاف الاهتمام بما يجري في أوكرانيا، ودفع العالم إلى أن يعتاد على التعامل مع هذه القيادة، رغم شن الحرب على البلد المجاور، ورغم رفض إيقافها، حتى لو كان المقابل رفع العقوبات عن أشخاصٍ وشخصيات اعتبارية روسية. ولعل موسكو تتهيأ الآن، وتجمع أوراقها استعدادا للمشاركة في قمة مجموعة العشرين في بالي بإندونيسيا مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وذلك لتحقيق اختراق في الطوق السياسي المفروض عليها.
هكذا وبتجاهل قمّة طهران في بيانها الختامي الحرب على أوكرانيا والحرب والسلام في اليمن والاحتلال والسلام في فلسطين، يتبين أن قضايا الحرب والسلام في الإقليم والعالم ما زالت بحاجة إلى اعتماد نظرة شمولية موضوعية.