عن انعطافة تركيا السورية

15 اغسطس 2022

سوريون في إعزاز شمالي حلب يتظاهرون ويرفضون تصريحات جاويش أوغلو (12/8/2022/فرانس برس)

+ الخط -

حتى وقت قريب، كانت تركيا الدولة الوحيدة تقريباً التي واصلت التزامها السياسي والعسكري بدعم المعارضة السورية، وحافظت على موقفها الداعم لتسوية سياسية شاملة للصراع تُلبي تطلعات الشعب السوري، رغم التكاليف الباهظة التي تكبّدتها جراء الحرب. لقد استضافت أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري منذ ما يزيد عن عقد، واضطرّت في عام 2016 إلى إرسال قواتها إلى شمال سورية لإبعاد خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عن أراضيها وإيقاف تمدّد المشروع الانفصالي الكردي قرب حدودها. كما نشرت قواتها في إدلب لحماية المدنيين في الجيب الأخير المتبقي للمعارضة من هجمات النظام السوري وحلفائه. لم يكن الالتزام التركي بالقضية السورية نابعاً فحسب من حرص أنقرة على إيقاف المذابح التي تعرّض لها السوريون على يد النظام وحلفائه خلال سنوات الحرب، بل ارتبط أيضاً بهواجسها الأمنية من الصعود الانفصالي الكردي، إذ ساعدتها البيئة الحاضنة لها في شمال سورية في تركيز جهودها على احتواء المشروع الانفصالي.
مع تزايد أعباء اللجوء السوري إلى تركيا، وتحوّله إلى ورقة انتخابية قوية بيد المعارضة التركية لتعزيز فرصها في هزيمة الرئيس أردوغان في الانتخابات المقرّرة العام المقبل، تجد أنقرة نفسها أمام معضلة الموازنة بين موقفها المبدئي في القضية السورية والبحث عن سبل أخرى غير مرغوبة لحل قضية اللاجئين، ومعالجة هواجسها الأمنية.
أخيراً، أثار وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، عاصفة سياسية بحديثه عن ضرورة إبرام تسوية سياسية بين النظام والمعارضة لإنهاء الحرب، وكشفه عن لقاء قصير جمعه بوزير خارجية النظام، فيصل المقداد، في بلغراد قبل أقل من عام. في حين أن أنقرة أبدت طوال فترة الصراع تمسّكها بتسوية سياسية شاملة، وتحقيق انتقال سياسي، إلا أن هذه هي المرّة الأولى التي تتحدّث فيها عن تسوية بين النظام والمعارضة. ويُشكل ذلك تحولاً في المعايير التركية للتسوية، وهو نتيجة طبيعية للتحولات التي طرأت على الصراع منذ تحوّل دفّة الحرب إلى صالح النظام وحلفائه، بعد التدخل العسكري الروسي في عام 2015.

يُشير النهج التركي المتحفظ تجاه نظام الأسد إلى أن أنقرة ترهن أي انفتاح سياسي عليه بتعاونه معها ضد الوحدات الكردية

جاء هذا التحول في الخطاب التركي تجاه نظام الأسد بعد قمّتين مهمتين، الأولى في طهران بين رؤساء تركيا وروسيا وإيران، والثانية في سوتشي بين الرئيسين التركي والروسي، تشير إلى ارتباطه بمشروع تسوية كبرى بين تركيا وروسيا وإيران في سورية. عندما اجتمع زعماء الدول الثلاث في طهران الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، كانت الخلافات واضحة بشأن خطط تركيا شن عملية عسكرية جديدة ضد الوحدات الكردية. مع ذلك، كان الشيء الوحيد الذي أجمعوا عليه هو الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وإخراج الولايات المتحدة من سورية. كما تعهّدوا بالتعاون في مكافحة الإرهاب، في إشارة إلى استعداد موسكو وطهران بالعمل مع أنقرة ضد الوحدات الكردية. منذ تشكيل منصة أستانة في عام 2017، نجحت الدول الثلاث في إدارة أهدافها الجيوسياسية المتناقضة في سورية، وإيجاد أرضية مشتركة للتعاون في كثير من جوانب القضية السورية، من إنشاء مناطق خفض التصعيد التي أدّت إلى تجميد القتال بين النظام والمعارضة إلى إدارة الخلافات بينها بشأن الوجود العسكري التركي في سورية، وتسهيل فتح قنوات تواصلٍ على المستوى الاستخباراتي بين أنقرة ودمشق. مع ذلك، ظلت الشراكة الثلاثية عاجزة عن وضع تصوّر مشترك لكيفية مواجهة المشروع الانفصالي الكردي.
في أعقاب قمّة سوتشي، تحدّث الرئيس التركي، أردوغان، عن تلقيه طلباً من الرئيس الروسي، بوتين، بالتعاون مع دمشق في المسألة الكردية. ورغم أن اللقاء بين جاويش أوغلو والمقداد حصل قبل نحو عام، فإن الكشف عنه الآن يحمل، في طياته، استعداد أنقرة المشروط لتطوير التواصل الاستخباراتي مع دمشق إلى مستوى سياسي. يقوم مشروع التسوية الكبرى بين تركيا وروسيا وإيران على تعاون هذه الدول ضد المشروع الانفصالي الكردي، وإخراج الولايات المتحدة من سورية مقابل انفتاح أنقرة على إعادة العلاقة مع دمشق. يُشير النهج التركي المتحفظ تجاه نظام الأسد إلى أن أنقرة ترهن أي انفتاح سياسي عليه بتعاونه معها ضد الوحدات الكردية. بالتوازي مع جهود موسكو لإحداث تقاربٍ بين أنقرة ودمشق، أبدت طهران استعدادها أخيراً للتوسّط بين الطرفين. كنتيجة لقمتي طهران وسوتشي، جمّدت تركيا، على ما يبدو، خططها بشأن العملية العسكرية ضد الوحدات الكردية، في محاولة لإفساح المجال أمام مشروع التعاون الرباعي في هذه المسألة.

البراغماتية غير المقيدة بحدود ساعدت أردوغان في إحداث انعطافة هائلة في سياسات تركيا الإقليمية خلال العامين الأخيرين

مع عدم التقليل من أهمية التحوّل التركي، لا تزال فرص إعادة العلاقة بين أنقرة ودمشق في المستقبل المنظور ضعيفة، لكنّها ستكون نتيجة حتمية إذا ما نجح مشروع التسوية الرباعية. هناك تعقيد آخر يتمثل بالوجود العسكري التركي في سورية، لكنّ موسكو وطهران تتجنّبان، في الوقت الراهن، إثارته لعدم استفزاز أنقرة وسيكون على الأرجح متروكاً للمراحل النهائية من التسوية. مع ذلك، فإن التحوّل التركي ينطوي على مخاطر زعزعة الشراكة الوثيقة بين أنقرة والمعارضة السورية، وانهيار البيئة الأمنية الحاضنة لوجودها العسكري في شمال سورية. كان البيان التوضيحي الذي صدر عن وزارة الخارجية التركية، بعد تصريحات جاوش أوغلو، محاولة لتهدئة مخاوف المعارضة، لكنّه لجأ إلى استرجاع العناوين العريضة للسياسة التركية في سورية من أجل التأكيد على صوابية الطرح التركي الجديد، وليس لتصحيحه. بمعنى آخر، تقول أنقرة إنها دعمت، منذ البداية، مشروع التسوية السياسية وفق المسار الأممي المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن 2254، لكنّ إفشال النظام له يفرض عليها البحث عن سبل أخرى، لم تكن ترغبها في السابق.
التحول الكبير الذي يطرأ على موقف تركيا من النظام السوري، وتطور الشراكة الثلاثية التركية الروسية الإيرانية إلى تعاون محتمل ضد الوحدات الكردية، لا ينمّ فقط عن الدوافع السورية لاستراتيجية الدول الثلاث، بل يُشكل أيضاً استجابة للتحولات التي فرضها الصراع الروسي الغربي على علاقات الدول الثلاث. تدفع العزلة الغربية لروسيا ببوتين إلى تعميق الشراكة السياسية والاقتصادية مع تركيا وإيران، في حين تعمل أنقرة على توظيف الحاجة الروسية لها في تحقيق أولوياتها المتمثلة في معالجة قضية اللجوء، والقضاء على مشروع الإدارة الذاتية للوحدات الكردية. كل هذه التحولات مدعومة إلى حد كبير بالتفاعل العملي والمرن لموسكو مع طهران وأنقرة في سورية والقضايا الأخرى. عندما تفرض المصالح المتغيرة تحوّلات في سياسات الدول تبرز البراغماتية وسيلة لتسهيل هذا التحول. في الحالة التركية، فإن البراغماتية غير المقيدة بحدود ساعدت أردوغان في إحداث انعطافة هائلة في سياسات تركيا الإقليمية خلال العامين الأخيرين، ويعول عليها الآن لدفع اللاعبين الفاعلين في المشهد السوري إلى دعم أولوياته السورية المستجدة.