في السياق الإقليمي للتقارب التركي العراقي
تُساعد نظرة إلى دور العوامل التاريخية والجغرافية، ومنطق المصالح المشتركة، في تشكيل العلاقات بين الدول المُتجاورة في تفسير جانب من جوانب مساعي تركيا والعراق نحو بناء شراكة استراتيجية شاملة، في أعقاب زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التاريخية بغداد (22 إبريل/ نيسان الحالي). ولأنّ هذه العوامل، ومنطق المصالح المشتركة، لم يأخذا حقّيهما كما ينبغي في إدارة العلاقات في السنوات الماضية، وبالتحديد في عراق ما بعد صدّام حسين، لاعتبارات مُتعدّدة، فإنّ العوامل المُفسدِة غالباً ما وَجَدَتْ هامشاً كبيراً لها للتأثير في ديناميكيات العلاقات. ويُمكن النظر إلى الفوضى والصراعات، التي شهدها العراق في العقدين الماضيين، والنزعة الطائفية للحكومات، التي تعاقبت على إدارة البلاد منذ تلك الفترة، ودخول العراق في فلك الهيمنة الإيرانية، فضلاً عن تفوّق الهاجس الأمني على الدبلوماسية في تشكيل السياسة التركية في العراق، على أنّها تجسيد لهذه العوامل المُفسدِة.
مع ذلك، بدأت التحوّلات، التي طرأت على هذه العوامل والظروف الخارجية المؤثّرة على العلاقات التركية العراقية، في آخر سنتين، تعمل اليوم دافعاً قوياً لإعادة تصميم هذه العلاقات من منظور مُختلف. فمن جانب، يستعيد العراق عافيته بشكل متزايد، ويُظْهِر رئيس وزرائه، محمد شيّاع السوداني، إرادة قوية نحو إعادة تشكيل علاقات بلاده مع مختلف الجهات الإقليمية الفاعلة والولايات المتّحدة من منظور مصلحة العراق أولاً. ومن جانب آخر، تُولي تركيا اهتماماً متزايداً بتصفير مشكلاتها مع دول المنطقة، ويزداد إدراكُها أهمّية التعاون مع جيرانها للتخلّص من مُعضلة حزب العمال الكردستاني. علاوة على ذلك، يظهر التقارب التركي العراقي جزءًأ من عملية إعادة تشكيل واسعة النطاق يشهدها الشرق الأوسط في السنوات الأربع الماضية، وبالتحديد بعد وصول الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، إلى السلطة في البيت الأبيض، إذ تُعيد دول المنطقة تشكيل سياساتها الإقليمية من منظور أن الولايات المتّحدة لم تعد قادرة أو راغبة، أو كلتيهما معاً، في مواصلة دورها قوّةً مُهيمنة في الجغرافيا السياسية الإقليمية، وتقلّص انخراطها في الشرق الأوسط للتركيز على أولويات المنافسة الجيوسياسية الجديدة مع الصين وروسيا.
استقرار العراق مُهمّ لتركيا ومنطقة الخليج، وإشراكه في مشاريع التكامل الاقتصادي الإقليمي يساعد في تحويله من مشكلة لدول المنطقة إلى مُنْدَمِج في محيطه الإقليمي، من جديد
وحتى في الوقت الذي تظهر فيه عوامل الأمن والتكامل الاقتصادي مُحرّكاً أساسيّاً في الديناميكيات الجديدة بين تركيا والعراق، فإنّها في الواقع تستمدّ زخماً إضافياً من السياق الإقليمي المتحوّل. وهنا يبرز مساران أساسيان لهذا السياق. الأول، يتمثّل في مساعي تركيا ودول الخليج إلى إعادة دمج العراق في المنظومة الإقليمية قوةَ استقرارٍ، والحد من تأثير إيران عليه. ويُمكن النظر إلى المشروع المسمّى "طريق التنمية"، الذي تشارك فيه الإمارات وقطر إلى جانب تركيا والعراق، على أنّه ركيزة في هذه المساعي، إذ لا تقتصر أهميته على أنقرة وبغداد فحسب، بل يشمل الخليج أيضاً. فهو من جانبٍ، سيعزّز التفاعلات الاقتصادية والتكامل الاقتصادي بين دول المنطقة، ويوجد خيارات أخرى في طرق النقل الإقليمية والعالمية للحدّ من المخاطر الجيوسياسية المتزايدة في الشرق الأوسط. ومن جانب آخر، يربط اقتصادات دول المنطقة بشكل أعمق باقتصادات آسيا الوسطى وأوروبا عبر تركيا. استقرار العراق مُهمّ لتركيا ومنطقة الخليج، وإشراكه في مشاريع التكامل الاقتصادي الإقليمي يساعد في تحويله من مشكلة لدول المنطقة إلى مُنْدَمِج في محيطه الإقليمي، من جديد.
الهامش من طهران لحكومة السوداني لتنويع خيارات بغداد الإقليمية لن يكون ائتماناً مفتوحاً
ويتمثل المسار الثاني في مساعي تركيا والخليج لملء الفراغ الذي سيُخلّفه الانسحاب العسكري المنتظر للولايات المتحدة من العراق. فبينما تُحاول أنقرة تعزيز مصالحها الأمنية في العراق من بوابة التعاون الأمني مع بغداد وأربيل، لتقويض قدرة حزب العمال الكردستاني على الاحتفاظ بوجوده في شمال العراق، تظهر مشاريع الاستثمارات الخليجية الكبيرة في العراق، على غرار "طريق التنمية"، جزءاً من وسائل القوة الناعمة لضمان تأثير مستقبلي لدول الخليج في عراق ما بعد الانسحاب الأميركي، ولتحقيق توازن مع إيران وتركيا في معادلات النفوذ الإقليمي بشأن هذا البلد. لقد أظهرت الاحتجاجات الشعبية في العراق في السنوات السابقة أنّ شريحة كبيرة من العراقيين، بمن فيهم الشيعة، سئموا من المنظومة السياسية، التي صمّمتها إيران بهدف تعزيز هيمنتها على البلد، ويرغبون في الانفتاح على دول أخرى في المنطقة من أجل تحسين وضع بلدهم، والتخلّص من دوره الوظيفي في الصراع الإقليمي.
وعلى الرغم من أنّ زيارة أردوغان العراق، وما شهدته من اتفاقيات ثنائية عديدة تقود إلى إقامة شراكة استراتيجية شاملة، ومن مذكّرة تفاهم رباعية (بين أنقرة وبغداد والدوحة وأبوظبي) بخصوص "طريق التنمية"، تُشكّل بداية تحوّل للعلاقات التركية العراقية ولعلاقات العراق الإقليمية، إلا أنّ الكيفية التي تُقارب فيها إيران هذا التحوّل ستكون حاسمة في تحديد آفاقه. والهامش الذي تمنحه طهران لحكومة السوداني في التحرّك نحو تنويع خيارات بغداد الإقليمية لن يكون بمثابة ائتمان مفتوح، وقد يتقلّص في حال وجد الإيرانيون أنّ الانفتاح التركي والخليجي على العراق يُهدد تأثيرهم المُهيمن على الحالة العراقية. ولا ينبغي التقليل من قدرة إيران على عرقلة المسار التركي العراقي الجديد.