عن انتخابات اختبار المصير في "أرض الصومال"
يشهد إقليم أرض الصومال انتخاباتٍ رئاسيةً، هي الرابعة منذ تأسيسه في 18 مايو/ أيار عام 1991. تعتبر عند بعضهم مصيريةً في سياقها وظروفها، ومختلفةً عمّا شهدته سابقاً من انتخاباتٍ رئاسيةٍ كانت انعكاساً مباشراً للتأثير الداخلي فقط، واستجابة لهموم المواطن في تحسين أسياسيات الحياة. هذا إلى جانب حلم تحقيق الاعتراف بـ"الجمهورية" التي لم تحظَ بعد باعتراف إقليمي ودولي.
تبدو الانتخابات الجارية عمليةَ جسّ نبضٍ حقيقية لمآلات الوضع في هذا الإقليم، الذي شهد في حقبة الرئيس (المنتهية ولايته)، موسى بيحي عبدي (2017 - 2024) أزمات داخلية، خاصّة بعد انفصال إقليم سول، والحرب التي خسرتها أرض الصومال في فرض سيطرتها بالقوة على مدينة لاسعانود عام 2023، وما أعقب ذلك من ارتداداتٍ عكسيةٍ لمذكّرة التفاهم الموقّعة مع رئيس الحكومة الإثيوبي أبي أحمد (يناير/ كانون الثاني 2024) في أديس أبابا، والتي كان بيحي عبدي يعتقد أنها ستدعم حملته الانتخابية لكسب أصوات الناخبين، لكنّها خيّبت آماله، فلم يجد ما كان يشتهي منها، إذ لم يلتزم أبي أحمد بتنفيذ وعوده بالاعتراف بأرض الصومال دولةً مستقلّةً في القرن الأفريقي، ما أفقد حزب كلمية (الحاكم) شعبيته، والمؤشّرات ترشّح فوز رئيس الحزب الوطني المعارض، عبد الرحمن عرو، لرئاسة الإقليم.
تعاقب على حكم إقليم أرض الصومال خمسة رؤساء، انتُخب اثنان بطريقة تقليدية عبر لجان عشائرية، عبد الرحمن أحمد علي (1991- 1994)، ومحمد حاج إبراهيم عقال (1993- 2000)، بينما انتُخِب الثلاثة الباقون مباشرة، طاهر ريالي كان، ومحمد أحمد سيلانيو، وموسى بيحي عبدي. ويختار الناخبون الرئيس السادس، ويتوقّع فوز عبد الرحمن عرو، كما يختار المواطنون ثلاث جمعيات سياسية من عشرٍ تحتدم بينها المنافسة، تتحوّل أحزاباً سياسيةً رسميةً خلال السنوات العشر المقبلة، وفق ما ينصّ عليه دستور الإقليم، الذي يقرّ بوجود ثلاثة أحزاب سياسية فقط.
تحتاج دول عربية وأفريقية عديدة أن تتعلّم من أرض الصومال دروسَ تنظيم انتخابات مباشرة وتجربتها
لافتٌ أن التجربة الديمقراطية في تداول السلطة بسلاسة، وفي ظلّ مناخ سياسي آمن في الإقليم، توحي بمستوى النضج السياسي الذي يتمتّع به السياسيون فيه، برغم الخلافات الحادّة بشأن بعض القضايا المصيرية، إلّا أن النزول في النهاية عند رغبة الشارع وأصوات الناخبين لتكون الفيصل الوحيد في تداول السلطة هي كلمة السرّ التي تميّز هذا الإقليم، من غيره من الدول المحيطة به، والتي لم تنعم قط بتجربة التداول السلمي للسلطة، بل ظلّت (ولا تزال) تحت حقبة دكتاتوريين ينظّمون انتخابات صورية، يعرف القاصي والداني نتائجها مسبقاً، ولا يكلّف الناخب نفسه عناء البحث عن الفائز في نهاية ماراثون انتخابي مزيّف، يصفقّ الكلّ في آخر السباق لهذا المرشّح الفائز الذي يعدّل القوانين ويرسم الدساتير وفق هواه وما يرضيه، ليبقى في المنصب، حتى مع آخر زفرة من أنفاس حياته.
يتنافس في الانتخابات المصيرية راهناً ثلاثة مرشّحين، الرئيس (المنتهية ولايته) موسى بيحي عبدي، ورئيس الحزب الوطني المعارض، عبد الرحمن عرو، ومرشّح حزب أوعد، فيصل علي ورابي، لكنّ المنافسة انحصرت بين مرشّحَين فقط، باستثناء الأخير، ويتُوقّع فوز عرو بأرقام فلكية مريحة، وكان يكسب الجماهير كلما مضى موسى بيحي نحو فشل أمني أو سياسي جديد، ولا سيّما الفشل في ضبط إيقاعات السياسة الأمنية، خاصّة في تهدئة الأوضاع الأمنية في إقليم سول، المتنازع عليه بين عشيرة طولبهنتي (تقطن الإقليم) وإدارة أرض الصومال الانفصالية، ما أدى إلى تراجع شعبية الحزب الحاكم وخسارة رئيسه المعترك الانتخابي، ويمرّ هذا الحزب في منعطف خطير نتيجة برامجه السياسية، وانخراطه في صفقات واتفاقيات لم يربح فيها بقدر ما شوّهت صورته انتخابياً وشعبياً.
يعد جيل زد" (Generation Z) وقودَ حركة الانتخابات الرئاسية والحزبية في الإقليم، ينشدون التغيير، وضخّ دماء جديدة في النظام الرئاسي في أرض الصومال، إذ إن جيلاً من قدامى المحاربين في جبهة الحركة الوطنية الصومالية يتصدّرون المشهد السياسي، ويتربّعون على المناصب السيادية، وتتعالى أصوات المطالبين بالتغيير حيناً بعد الآخر، أصوات يدعمها الفنّانون بأصواتهم التي تصدح الأثير بنغمات الموسيقى الشعبية، التي انتشرت كالنار في الهشيم في وسائل التواصل الاجتماعي، ما ألهب الحماسة لدى الجماهير، فالتغيير الذي يريده المواطن هو تحقيق وضعين، سياسي وأمني، لا يثيران الجلبة في وسط إقليم متوتّر، خاصّة في مسألة منح إثيوبيا منفذاً بحرياً 50 عاماً، بالإضافة إلى تحسين الأوضاع المعيشية، وحلّ المشكلات والخلافات العالقة بين القبائل القاطنة في الإقليم، وإعادة النظر فيما اتُّفق عليه قبل عقود، والعبور نحو برّ الأمان بسلام.
تحدّيات كثيرة وملفّات شائكة أمام الرئيس المتوقّع فوزه، عبد الرحمن عرو، يرث الرجل حملاً ثقيلاً من سلفه موسى بيحي عبدي، وأعقد هذه الملفّات معضلة مذكّرة التفاهم الموقّعة مع إثيوبيا، فهي بمنزلة مخلب أديس أبابا لإبقاء هذا الإقليم مضطرباً وكي لا يحظى بعلاقات جيّدة مع باقي مكوّنات المجتمع الصومالي الرافضة هذه المذكّرة، وهو ما فرض عزلةً إقليميةً على الكيان السياسي في أرض الصومال باستثناء إثيوبيا، كما أن ملفّ احتواء مشكلة قبيلة طولبنهتي تفاقمت انعكاساته الداخلية، ووصل إلى ذروته بإعلان الانفصال عن إقليم أرض الصومال عام 2023، نتيجة حرب ضروس استمرّت أشهراً، وخسرت أرض الصومال رهان المعركة، وأفضت أيضاً إلى ولادة حكومة إقليمية جديدة في شرق الإقليم، تحت مسمّى ولاية خاتمو، بعد أن اعترفت حكومة مقديشو بهذه الحكومة الوليدة التي اتخذت من مدينة لاسعانود عاصمةً إداريةً لها، ما زاد حجم التوتّرات والتباعد بين إقليم سول وإدارة هرجيسا في العامين الماضيين، ويبدو أن الخيار الوحيد أمام حكومة عرو المقبلة هو الحوار، والتوصّل إلى تفاهمات جادّة مع هذه العشيرة (طولبهنتي)، والعدول عن فكرة الانفصال، والعودة إلى حضن هرجيسا كما كان الحال سابقاً.
فشلت الإدارات التي تعاقبت على حكم أرض الصومال في تحقيق حلم الاعتراف إقليمياً ودولياً
فشلت الإدارات التي تعاقبت على حكم أرض الصومال في تحقيق حلم الاعتراف إقليمياً ودولياً، ويبدو هذا الحلم بعد مضي نحو ثلاثة عقود من تأسيس هذا الكيان المستقرّ أمنياً وسياسياً (نوعاً ما) بعيدَ المنال، فكلما ازدادت التوتّرات بين العشائر والحزب الحاكم بدا واضحاً أنه غير ممكن، لأن سردية التظّلم من الجنوب ومن حكم العسكر السابق تحديداً، ومسوّغات الانفصال على هذا الأساس التاريخي، لم تعد مقنعة، هذا فضلاً عن تزايد الديمغرافية السكّانية (نحو ستة ملايين نسمة) في الإقليم، وارتفاع نسب البطالة والفقر نتيجة قلّة فرص العمل وغياب المؤسّسات الخدمية في الإقليم، كلّها عوامل من شأنها أن تضغط على الرئيس المنتخب لبحث السبل والإمكانات كلّها لتمكين فئة الشباب أولاً، التزاماً بوعوده للناخبين، وأن تكون الفترة المقبلة مرحلةَ إعادة تأسيس هذا الكيان، ودفعه نحو الانخراط في التحالفات الإقليمية تماشياً مع متغيّرات القرن الأفريقي، والانعتاق من ربقة سياسات إقليمية لا تخدم مصالح أرض الصومال، بقدر ما تخدم أجندات دول أخرى، وأن يشارك المدنيون في حكم أرض الصومال الجديدة، بلا استثناء، وتفرز وجوهاً جديدةً غير من حملوا السلاح لإطاحة نظام سيّاد بري (1969-1991).
أخيراً، حققت هرجيسا عرسها الانتخابي الديمقراطي بنجاح، وتعهّد المرشّحان الخاسران في الانتخابات (بيحي و ورابي) بالاعتراف بنتيجة الانتخابات (تعلن في 21 من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري)، ويبزغ فجر جديد لهذا الكيان الذي يبدو مختلفاً عن إقليم تسود فيه حكومات لا يصح القلم بوصفها منتخبةً أو ديمقراطيةً، ولهذا تحتاج دول عربية وأفريقية عديدة أن تتعلّم من أرض الصومال دروسَ تنظيم انتخابات مباشرة وتجربتها، يشرف عليها عشرات من المراقبين الدوليين، ومهما حدث من اتهام بين المرشّحين بالنفاق والخيانة تنتهي بفوز مرشّح المعارضة، وهذا عارض صحّي ديمقراطي في أثناء الانتخابات يعكس حقيقةً مفادها بأن خصمك الانتخابي عدوّ تلبسه حتى بلبوس الشيطان للظفر بمنصب الرئاسة، فهل ينجح الرئيس المنتخب في إرساء كيان جديد في أرض الصومال أكثر استقراراً أمنياً وسياسياً، ويجنّب المنطقة حرباً إقليميةً بالوكالة؟