عن العرجاني ويوسف زيدان ومُهمّين آخرين
يسأل يوسف زيدان فراس السوّاح: هل أنت أكثر أهمّية أم طه حسين؟... فيجيب السوّاح: أنا وأنت أكثر أهمّية منه. ويعتمد زيدان معيار البيع والتوزيع، الذي لا يُسعفه، بالمناسبة، والذي يصلُح لتقييم صنّاع المحتوى الترفيهي، لا مشروعات الكُتّاب والمُفكّرين الفارقين في مسارات أفكار شعوبهم وأممهم. قامت الدنيا في مصر، فتراجع الاثنان؛ السوّاح وزيدان، وصرّحا إنّها كانت مزحة، أو ورطة، وإن كان الفيديو يقول غير ذلك، فالحوار جادّ، لا ضحك، لا ابتسامة، لا تغيّر في مستوى الصوت أو لغة الجسد، كلّ ما هنالك أنّ "الهبدة" لم تمرّ، مثل مئاتٍ غيرها، فوجب التراجع.
والسؤال: ما الذي يجعل محقق تراث تقليدي، وكاتب رواية، كلّ منجزه رواية حصلت على جائزة بوكر العربية، ثم محاولات أقلّ من متوسّطة، يرى في نفسه أنّه أكثر أهميّة من عميد الأدب العربي، وأحد أهم روّاد التحديث في ثقافتنا؟ ما الذي يجعل كاتباً جيّداً يرى في نفسه أنّه أهم من كاتبٍ ومفكّرٍ وأديبٍ ومثقفٍ ظاهرة؟... الإجابة السهلة أنّ زيدان مغرور، ومنتفخ وهزلي وواهم. لكنّ المُشكلة في مصر، الآن، أكبر من ذلك، أكبر من زيدان وأوهامه، وأكبر من واقعة المقارنة الكوميدية بينه وبين طه حسين. إذ لا معيار في مصر لشيء، أيّ شيء. في الخطابات الدينية، والسياسية، والثقافية، وحتى الكلام في كرة القدم، لا معيار سوى القدرة، قدرة القائل على أن يقول، قدرته على الإمساك بـ"الحديدة"، سواء لأنّ لديه من السلطة ما يحميه ويُمَكّنه من القول ومن الحديدة، أو لأنّه هو شخصياً صاحب السلطة والحديدة معاً.
يزداد الأمر سيولة واستباحة حين يتمتّرس القول خلف قبيلة، ويتقدّم خلف حشد، وهي مهارةٌ صارت أسهل من شرب الماء، كما أنّها صارت الخيار الآمن الوحيد، بعد أن تحوّل التقسيم الحدّي للمجتمع إلى مشروع إنقاذ وطني، وتحوّلت الوطنية إلى فرقةٍ ناجية، كلّ مخالفيها في الجحيم. خذ مثلاً كلّ ما يتعلق بالمدعو إبراهيم العرجاني، ما الذي يعنيه أن يؤسّس أحدُهم كياناً قبلياً مسلّحاً داخل دولة وطنية قومية؟ تتنوّع الإجابات حسب موقعك من هذا الكيان المسمّى اتحاد القبائل العربية، وحسب موقعك من الدولة التي باركت هذا الكيان المنافس لها أو الداعم أحد أجنحتها في مواجهة آخر، ويغيب المعيار الذي من المفترض أن يحكم هذا النوع من الخلافات، ويمثّل "نقطة النظام" لدى الأطراف كافّة، كما هو مفترض، الدستور الحاكم على الدولة وحكّامها، وأجنحتها، وأطراف النزاع فيها. وفي الحالة العرجانية، نحن أمام انتهاك صارخ للدستور، يصل إلى حدّ تحدّيه ومنازعته، إذ ينصّ الدستور المصري في مادّته رقم 74 على أنّ "للمواطنين حقّ تكوين الأحزاب، بإخطار ينظّمه القانون، ولا يجوز مباشرة أيّ نشاط سياسي أو قيام أحزاب على أساس ديني أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو على أساس طائفي أو جغرافي أو ممارسة نشاط معادٍ لمبادئ الديمقراطية أو سريّ أو ذي طابع عسكريّ، ولا يجوز حلّ الأحزاب إلا بحكم قضائي". فمن أين مرّت مليشيا العرجاني في سيناء؟ ووفق أي معيار سمحت الدولة المصرية (والجيش) بتهديد مسلّح في سيناء لا يقلّ خطورة عن الجماعات المتطرفة هناك؟ وكيف يتصوّر أصحاب خطابات التبرير والتمرير والتهليل أنّ مُجرّد ادعاء الوطنية وإلصاقها بأنفسهم وبالعرجاني ومليشياته من ناحية، وادعاء الأخونة وإلصاقها بمعارضيهم ومعارضي مليشيا العرجاني، من ناحية ثانية، يعنيان إمكانية استغفال ملايين المصريين الذين يقرأون في الجرائد، وفي مواقع التواصل، ويشاهدون على الشاشات، ويسمعون من جيرانهم السودانيين عن مليشيا قوات الدعم السريع في السودان، وما اقترفته وتقترفه يومياً من جرائم في حقّ السودان وأهله؟ ما معيار السماح؟ ما معيار الخطاب؟ ما معيار التلقّي؟ ما معيار التصديق أو التكذيب؟... لا شيء سوى مُجرّد القدرة. أنا قادر، إذاً أنا قائل أو فاعل، بقطع النظر عن النتائج أو المآلات أو أيّ اعتبارات دستورية أو قانونية أو أخلاقية، تخصّ أصحابها، من غير القادرين.