عن السودان .. مشاهِد من حقبة الحرب الباردة

10 مارس 2021
+ الخط -

(1)

السودان كان بلداً مهملاً معزولا، طوال الثلاثين عاما التي تسيّد فيها عمر البشير وأزلامه في حكم البلاد، وظل نظاما كما الكبش الأسود وسط قطيع الراعي، يتحاشاه المجتمع الدولي، بل جنحتْ أعضاؤه إلى النفور عنه، كمثل فرار الصحيح من الأجرب. غير أن سودان ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وعلى الرغم من العثرات السياسية والاقتصادية التي لازمت ترتيب أوضاعه الداخلية، وقد أمكنه تحقيق قدر من السلام والاستقرار الداخليين، هو الأكثر قدرة الآن على استشراف علاقات خارجية متوازنة مع مختلف أطراف المجتمع الدولي. الإرث المضطرب الذي آل إلى الحكومة الانتقالية من النظام السابق في السودان لم يكن متصلا بترتيب أوضاعه الداخلية وإزالة التشوهات السياسية والاقتصادية التي أحدثت هذه الاختلالات الماثلة، لكنه يتصل كذلك بما تحقق في التمهيد الجاد لإعادة السودان عضواً فاعلاً في الساحة الدولية.

(2)

سادتْ، خلال حقبة نظام "الإنقاذ" المباد، اضطراباتٌ في علاقات السودان الخارجية، على المستويين، الإقليمي والدولي. خضوع السودان لقراراتٍ دولية من جانب، ثم عقوباتٌ ثنائية من دول مؤثرة من جانب آخر، أدت إلى محاصرة البلاد وعزلة قيادتها عُزلةً مهينة، تركتْ رأسَ الدولة تحت تهديد الاعتقال، بأمر محكمةٍ دولية، إن تجرَّأ وغادر إلى الخارج.

من تأثيرات العزلة والمحاصرة أن نظام "الإنقاذ" صار مشلولا شللاً كاملاً، بل صار أضعف من أن يستقل بقراره السياسي

من تأثيرات تلك العزلة والمحاصرة أن نظام "الإنقاذ" صار مشلولا شللاً كاملاً، بل صار أضعف من أن يستقل بقراره السياسي. صار النظام السوداني، خصوصا في السنوات القليلة قبل سقوطه، في حالةٍ من الضّعف والاستضعاف، مستسلماً وخاضعاً لشتى الضغوط الواقعة عليه، وأفضتْ به إلى حالٍ لم يعد قادراً معها على خدمة مصالح السودان القومية، بل جعلت منه خادماً ذليلاً لأجندات أطرافٍ أخرى في الإقليم. من تلك المواقف والتصرّفات الخرقاء لذلك النظامٍ تورّطه غير المبرَّرٍ، في مقاتلة حوثيين في اليمن، وفي قطع علاقاته كاملة مع إيران مجاملة لحلف إقليمي، يحارب الحوثيين هناك. ليس ذلك فحسب، بل منح مساحات شاسعة من أراضيه، لطامعين أجانب، وكاد أن يرهن ثغوره البحرية المطلّة على البحر الأحمر، لأطرافٍ إقليمية، تتنافس سعياً إلى الحصول على مواطئ نفوذٍ في أحد أهمّ الممرّات البحرية للتجارة الدولية.

(3)

لم يفطن ذلك النظامُ الضعيف في السُّودان إلى أن استقواءه بمثلِ أولئك الطامعين هو بالخصم على سيادة البلاد، إذ لن تتحقق أجنداتهم إلّا بالإبقاء على النظام ضعيفاً مُتهالكا. سعى إلى عقد اتفاقيات مُذلة مع مَن عـدّهم حلفاءه والمتعاطفين مع نظامه. تودّدتْ إليه تركيا، ولها بالطبع أجنداتها في المنطقة. اختارتْ التاريخ مدخلا لها، فاقترحت على البشير المستضعف تجديد (بالأحرى استئجار) ميناء سواكن السوداني، وهو الميناء التاريخي القديم، منذ سنوات القرن التاسع عشر، حينَ تمدّدتْ الخلافة العثمانية إلى بلدان عديدة في الشرق الأوسط، والسودان كان أحد ولاياتها السلطانية.

سادتْ، خلال حقبة نظام "الإنقاذ" المباد، اضطراباتٌ في علاقات السودان الخارجية، على المستويين الإقليمي والدولي

وفيما الاضطراباتُ تتصاعد في الشام، وعيون موسكو لا تغفل عن حلفائها في المنطقة، فإنها لا تخفي مطامعها للتمدّد جنوبا إلى التخوم الدافئة، فتقترح على البشير، المستضعف أصلاً، اتفاقاً عسكرياً يمهّد لها الحضور المؤثر في شواطئ السودان المُطلة على البحر الأحمر. تودّدتْ إيران الإسلامية إلى نظام البشير لتستضيف موانئ بلاده قطعها الحربية، في البحر الأحمر. إلا أنّ الحرب في اليمن، والآخذة في التصعيد، دفعتْ الأطراف الخليجية العربية المتورّطة في أحداثها إلى الضغط على البشير المستكين، فرفض العرض الإيراني، بل مضى بعيداً ليقطع علاقته الدبلوماسية مع إيران جملة واحدة. المهانة التي كان عليها الرئيس الهُمام أجبرته ليرضخ لـ"شـيلوك"، ليقتطع من لحمه وكرامة بلاده ما يريد.

(4)

فطنتْ موسكو إلى أن اتفاقها مع نظام البشير المتهالك، والذي يتيح لها الاقتراب من مياه البحر الأحمر، قد يحتاج ضماناتٍ وتعهّداتٍ جادّة. سعتْ حثيثاً، بل تعجّلتْ توقيع اتفاقية في عام 2019 مع المجلس العسكري الذي تولى مؤقتاً حكم السودان بعد سقوط البشير، ألزمتْ بموجبها السودان، وحكومة الثورة الانتقالية، القبول بتنفيذها. وذلك ما دفع موسكو إلى أن تسارع بإرسال قطعٍ عسكرية بحرية إلى السّواحل السودانية، إثر التحرّكات الأميركية التي استرابتْ منها، والمتمثلة في زيارة نائب قائد القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) الخرطوم يناير/ كانون الثاني الماضي، ثم زيارة فرقاطتين أميركيتين إلى ميناء بورتسودان، أوائل الشهر الماضي (فبراير/ شباط). وهكذا بدتْ الصورة، وكأنّ البحر الأحمر يتهيّأ لتصارعٍ مُحتدمٍ حول بسط النفوذ بين أطرافٍ، لا علاقة لها مباشرة، بالتوترات القائمة في المنطقة ولا بدولة مثل السودان.

(5)

لكلِّ هذه التطورات، خلفية لا تخفى على المراقب الحصيف: تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا توتراً واضطرابات تتصاعد وتيرتها شمالا في منطقة الشام، وجنوباً في اليمن، ما يجعل البلدان المشاطئة للبحر الأحمر منطقة في حال من التوتر وعدم الاستقرار، الأمر الذي يشكل تهديداً للتجارة العالمية في ممر مائي دولي عام. وثمّة تصاعد في الأزمة الناشبة بين السودان وإثيوبيا حول أمور ثلاثة: الأول يتصل بأراضي الفشقة الخصبة، والتي حسبت إثيوبيا أنها قادرة على تقنين تبعيتها، بوضع اليد، على الرغم من اعترافها بتبعيتها للسودان وفق اتفاقيات تاريخية قديمة تعود إلى بداية القرن العشرين وإلى أواسطه، واتفاقية حاسمة تم التوقيع عليها بين البلدين في 1972.

يتورّط الاتحاد الأفريقي في ملفٍ لم يكن يوماً من انشغالاته، الخلاف السوداني المصري حول مثلث حلايب وشلاتين

ويتصل الأمر الثاني بالخلاف حول سد النهضة الذي تتصاعد وتيرته بين السودان ومصر، باعتبارهما دولتي مصبّ، وإثيوبيا دولة منابع. ولكل من مصر والسودان مطالب بضرورة الاتفاق حول ذلك الملء والتشغيل، تحسبا لما قد يطرأ من مخاطر، إن تصرّفت إثيوبيا من دون اعتبارٍ للطرفين المعنيين معها. ويتصل الأمر الثالث بتداعيات الصراع الداخلي الدائر بين الحكومة الإثيوبية ومجموعة التيغراي، ونزوح آلاف منهم إلى الأراض السودانية، ما أضاف تعقيداتٍ لم يتحسّب لها أحد، ضاعفت من اضطراب الأحوال في المنطقة.

(6)

تتعقد الصورة بأكثر من ذلك. ثمّـةُ خلافٌ تاريخيّ قديم بين السودان ومصر، يعود إلى عام 1958، بشان تبعية مثلث حلايب وشلاتين السودانيتين. تُرك ذلك الخلاف معلقاً، ولم يثر السودان شكواه الرسمية للمناقشة في مجلس الأمن منذ ذلك العام، إلا أنّ محاولة نظام البشير اغتيال الرئيس المصري، حسني مبارك، الفاشلة في عام 1995، قد أفضتْ بالعلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوياتها. لم يجد النظام المصري حرجاً في إقدامه على ضمِّ مثلث حلايب وشلاتين قسراً، وإعلان كامل السيادة المصرية عليه. وفي التشابك الماثل بين كلّ هذه القضايا، يتورّط الاتحاد الأفريقي في ملفٍ لم يكن يوما من انشغالاته، وهو الخلاف السوداني المصري حول مثلث حلايب وشلاتين، بما يشي بتسلل أصابع مخابراتية، لا تعرف لها يد، زادت من تصعيد التوتر في المنطقة. وهكذا ارتبكتْ جهود الاتحاد الأفريقي في الوساطة بين إثيوبيا ومصر والسودان، لاشتباه السودان في حيادية موقفه من المُثلث، وهو ملف لم يكن أصلاً من ملفات ذلك الاتحاد، فاهتزتْ ثقة السودان في قيام الاتحاد بالوساطة. ربّما يفسّر ذلك التشكيك طرح السودان مبادرةً جديدةً، وافق عليها الطرف المصري بشأن استئناف التفاوض، تقضي بأن يتم التفاوض بوساطةٍ رباعية، يشارك فيها، إلى جانب الاتحاد الأفريقي، ممثلون عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية.

(7)

لو أمعنّا النظر في تلك التطورات، الماثلة في هذه الآونة، سنرى في فسيفساء الصورة ما يقنعنا بأنّ التاريخ قد يعيد نفسه، بما كان سـائداً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي بعض المناطق الأخرى من هذا العالم المضطرب. ثمّةُ تصعيد في الاضطرابات في سورية وفي اليمن، وتحركاتٌ لسُـفنٍ حربيةٍ أميركية وأخرى روسية، تتجوَّل في شواطئ البحر الأحمر، وتوترٌ يتصاعد بين الأطراف المعنية بسدِّ النهضة. ثمّةٌ انتظارٌ إيرانيّ مُتحفّـز، وخليج يراوح بين تطبيعٍ خجولٍ مع إسرائيل وحياد صامت. في الأفق القريب، اهتزاز في العلاقات الأميركية السعودية. .. ألا تعيد تلك المشاهد إلى الذاكرة ما كان سائداً إبّان حقبة الحرب الباردة، في أواسط خمسينيات القرن العشرين وحتى سنواته الأخيرة؟