حروب مرئيّة وأخرى منسيّة
أنظرُ إلى عديد من القنوات الفضائية الغربية والأميركية الشهيرة، فأرى إعلاناتٍ عن قدراتٍ تفوق الخيال في اتساع تغطياتها الإعلامية على مستوى العالم، فتجدني أقف حائراً حين أرى عدم دقّة مثل تلك الادّعاءات. وقد يرى كثيرون معي أنّ بعض هذه القنوات الفضائية، التي اكتسبت شهرة عالمية بسبب انتشار مراسلين لها في مختلف أنحاء العالم، تمارس، في أحيان كثيرة، تجاوزاتٍ وتحيّزاتٍ في تغطياتها الإعلامية لكثير من الأحداث التي تقع في إقليمها، وما بعد إقليمها، بما قد يُحيلنا على الوقوف على مسافة من اعتماد موثوقية ما نشاهد ونسمع، بل يدفعنا الحذر المطلوب، إذ بات جليّاً اختلاط أجندات السياسية مع السياسات الإعلامية لبعض تلك الفضائيات الدولية الشهيرة، إلى أنّ نُكذّب ادّعاءاتها، إذ ثمّة تباينات وانحيازات لا تغفل عنها عيون متابعي هذه القنوات الفضائية.
حين أرى فضائيةً عالميةً شهيرة تعتمد لتغطياتها الحرب التي تديرها دولة إسرائيل لإبادة الشعب الفلسطيني، الذي يعيش مظلومية إلغاء أمّة ودولة فلسطينية جنوا عليها منذ عام 1948، عنواناً مُختصراً يصف تلك الحرب الظالمة بأنّها "حرب إسرائيل ضدّ حماس"، يراد للمتلقّي، في الشرق أو الغرب، أن يرى تلك الحرب بين ندّين، أو هي حرب ضدّ نوع من الإرهاب الدولي، الذي يُهدّد الأمن والسلم الدوليَين. حين تتعمّد مثل تلك الفضائيات العالمية تجاهل حقائق التاريخ القريب، فإنّها في ادّعاءاتها، تمنح شرعية لظالم على مظلوم، وتساوي بداهةً بين قاتل ومقتول. إنّ خداع الإعلام لن يكون مقبولاً، ولا أقلّ من متابعة تفاصيل تلك الوقائع وتلك المظلوميات، حتّى عبر شاشات تلك الفضائيات نفسها. نتابع في الشاشات جيشاً نظامياً مدجّجاً بكلّ أسلحة الدمار في البرّ والجو والبحر، لقتل شعبٍ فلسطيني شُرّد من أرضه قبل أكثر من سبعين عاماً. تعمّد جيش الكيان الإسرائيلي قتل الفلسطينيين من الرجال والنساء والأطفال، ومحو مساكنهم ورياض أطفالهم ومدارس أبنائهم ومستشفياتهم ومراكز أسواقهم، ويطاردهم حثيثاً وهم هائمون من ملاذٍ إلى آخر. تُرى، هل أولئك الأطفال والرُّضّع الذين قُطّعتْ أوصالهم، والمسنّات والمسنين، ومن بلغوا من العمر عِتيّاً، هم جند "حماس"؟... إنّ من لا يقول إنّها إبادة جماعية تدور تحت بصر العالم لهو كذابٌ أشِر، حتّى إن مَلَكَ جماع القوّة والهيمنة والغطرسة، وحتّى إن استخفّ بكلّ المثل والقيم والمواثيق، فإنّ الإنكار، ولَيّ عنق حقائق ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، هو جريمة في حدّ ذاتها، ثمّ نرى بأعيننا كيف يشارك إعلام عالمي في تزوير وقائع تلك المظلوميات، فيكون بذلك شريكاً أصيلاً، ليس في تزوير الوقائع فحسب، بل في جريمة الإبادة الجماعية الماثلة في أرض فلسطين.
غير أنّ لبعض أجهزة الإعلام العربي، من صحف أو فضائيات، سهما في التضليل، إذ ترى بعضها يتزوّد من سموم ما يبثّه إعلام الغرب وقنواته الفضائية ذات السطوة في الساحات الدولية، من دون تمحيص في محتويات ما يُبثّ أو مراجعة أساليب العرض واللغـة المُتحيّزة. يصعب على المتابع الحصيف أن يجد عذراً لمثل هذه الفضائيات، أو أن يسامح غفلتها عن الرصانة والمصداقية في عرض الوقائع. لعلّ من واجب الفضائيات العربية أن تفضح أجندات غسل العقول التي تتعمّد طمس الوقائع الماثلة من قبل قنوات فضائية عالمية لها السطوة والسيطرة، بما تحتكره من معينات الانتشار الإلكتروني والرقمي، فتسعى لبسط أكاذيب تتّصل بأجندات ظالمة، فتكون بذلك شريكاً في مهادنة الظالم، بل في إعانته بتقديم التزوير الإعلامي لتبرير المظلوميات وحجب الحقائق.
صار العالم بعد ثورات الانكشاف الرقمي، بقعة واضحة المعالم تتواصل أطرافها، فلا وقائع يسهل إخفاؤها، ولا تزوير لا يمكن فضحه
انتقاء عديدين من مُعدّي التغطيات الإعلامية ومراسليها بعض محتويات ما يرصدونه في تقاريرهم، إن كان عن غفلة أو عن تعمّد، فإنّه يحيلهم مشاركين، بدرجاتٍ تزيد أو تقلّ، في التعمية الإعلامية، وفي تزوير الوقائع التي يتابعونها مباشرة بأعينهم. إنّ من طبيعة البشر طغيان أقواهم على ضعيفهم، وأغناهم على فقرائهم، إلا من رحم الربّ. غير أنّ المظلوميات التاريخية، ومنذ بدء الخليقة، لا تجد لها رصداً تفصيلياً دقيقاً، فكلّ قويٍّ هو من يكتب تاريخ أمجاده، وكلّ غنيٌّ هو من يحدّث بغناه، ثمّ كلّ ظالم يملك القدرة على إخفاء ظلمه، فلا تنطق فضائياته بما يُخفي. لكن الآن، وقد صار العالم بعد ثورات الانكشاف الرقمي، بقعة واضحة المعالم، تتواصل أطرافها، فلا وقائع يسهل إخفاؤها، ولا تزوير لا يمكن فضحه، ولا استغفال يكون مسموحاً به. إنّ تبرير حرب إسرائيل لإبادة لشعب الفلسطيني بأكذوبة أنّها حرب ضدّ مقاتلي "حماس"، أو هي للتصدّي للإرهاب الدولي، يظلّ أمثولة لنفاق دولي صريح. من يتحكّم في شبكات الاتصال الدولية، وتمتد سياساته الكولونيالية لتستعمر حتّى الفضاء الخارجي، لقادر على استغبائنا، وحملنا على تصديق ما يزوّرون وما يشوّهون، إذ للقويّ المُتجبّر أن يستولي، ليس على مواردك المادّية من فوق الأرض وما في باطنها، بل قادرٌ أيضاً، وعبر كولونيالية ناعمة، على أن يحتكر تفكيرك، ويغسل دماغك، ويحيلك عبداً عابداً لأجنداته ومصالحه. وإن تمرّدتَ فهم قادرون أيضاً، على حياكة مؤامرات وصناعة أزمات وإدارة حروب بذكاء لتبيد نفسك بنفسك، وهم يتفرّجون عليكَ بإبصارٍ لا ترقّ له عيون.
الواقع الإعلامي الرقمي المحدث قائم على الشفافية ووضوح الرؤى، ولنا نحن الأبعدين عن قدرات التكنولوجيا في عالم لا يزال يراه الأقوياء متخلّفاً، أن نتنبه لنبصر حقيقة ما يقع من حولنا، ونمحّص الصدق من الخطل فيه. تنظر حولك في الحروب الدائرة، هذه الآونة، بين دولٍ في أنحاء العالم، غنيّها وفقيرها على حدٍّ سواء، سترى وراء كلّ أزمة طرفاً خفيّاً مُستفيد، ووراء كلّ حرب وكلاء يقاتلون بعضهم بعضاً لصالح مُستفيد وراء الأكمة. واهمٌ من ظنَّ أنّ الاستعمار الكولونيالي، الذي عرفنا تاريخه القديم، وصدّقت شعوب كثيرة أنّها تحرّرت منه ونالت واستقلالها من ربقته، انطوت صفحاته إلى غير رجعة. هاهي الكولونيالية الجديدة وبأقنعة رقمية ذكية، تُخفي أجنداتها عمّن استغفلتهم، وتدير الأزمات والصراعات والحروب، وحتّى الجوائح، في كلّ طرف من أطراف العالم، وبدرجات أوصلتهم إلى فتوحات الذكاء الاصطناعي. ها هو قطاع غـزّة والعالم يشاهد أكثر من مليوني فلسطيني يكابدون سعي إسرائيل الحثيث لاجتثاثهم من على البسيطة. ها هي أوكرانيا تكابد في مصارعة عرّابها الروسي القديم، الذي لا يكفّ عن السعي لتحقيق أطماعٍ تزيد منعته إزاء أوروبا، وقد توسّع اتحادها ثراءً وقوة. ثمّ ها هو السودان في حربه مع نفسه وقد خرج ثلثا سكانه، وهم يفوقون 40 مليون نسمة تعداداً، يلوذون ببلدان أخرى في الجوار وفي غير الجوار. أعرف أعداداً منهم لاذت بإسكندنافيا وبأستراليا وبنيوزيلندا.
لك أن تنظر مليّاً لمجريات حرب السودان فترى ما يشبه التجاهل في التغطيات الإعلامية من فضائيات تهتزّ العروش تحت أقدامها
تنظر في شاشات الإعلام الدولي وفضائياته الشهيرة التي لا تنافَس، فتجد انتقائيةً لا تخفى على المشاهد في تغطياتها لمجريات تلك الحروب والصراعات التي جئنا على ذكرها. تنظر مليّاً في طبيعة أيّ من تلك الحروب لتكتشف أنّ ما يُسمَّى بـ"حفظ الأمن والسلم الدوليين"، هو تعبير فاقد المعنى. إنَّ حُماة من عناهم التعبير، هم أنفسهم الخائضون بأظفارهم وأصابعهم في تلك الحروب، إمّا بتوغّل مباشـر أو عبر وكلاء معتمدين. حرب روسيا وأوكرانيا هي أشبه بالحرب التأديبية، تدار بحسابات دقيقة تتّصل بتوازن القوى الدولية، فتراها تستهدف العمران لا الإنسان. أمّا الحربان الدائرتان في السودان وفي أرض فلسطين، فهما حربان غلبت عليهما طبيعة إحلالية بائنة، بل هي صورة تنحو نحو إبادة جماعية وتطهير عرقي يدمّر الإنسان والعمران معاً.
ولك أن تنظر مليّاً لمجريات الحرب في السودان وهي حرب تدخل عامها الثاني، فترى ما يشبه التجاهل في التغطيات الإعلامية من طرف تلك الفضائيات التي تهتزّ العروش تحت أقدامها، ولا تعجب لأنك لم ترَ لها ولا مراسلاً واحداً يتحدّث عمّا يجري في ميادين تلك الحرب. ليتني أسمع من يفيدني عن مراسلٍ واحدٍ في مثل هذه الفضائيات أصيب أو جرح أو قتل في الحرب الدائرة في السودان. تجاهلُ وإهمالُ تلك الحرب لم ينطلِ حتّى على رئيسٍ أوروبي، مثل إيمانويل ماكرون، فسمّاها "الحرب المنسيّة". أما في الفضائيات الأشهر في العالم، فلن تجد ذكراً أو تغطياتٍ لخبر عنها إلا مرّة في الشهر أو مرّتين. إنّك لن ترى اسم عاصمة السودان؛ الخرطوم المدمّرة حتّى في نشرات الطقس. أعرف بعض قنوات رسمية في دول عربية (لن نسمّيها) تفعل ما فعلته تلك الفضائية العالمية الأشهر. ما تخلّفه الحروب مآسٍ واضحةَ المعالم، وليس للفضائيات أن تنتقي في تغطياتها الإعلامية بين حرب وحرب، ولا بين صراع وصراع، إذ إنّ دمار العمران وقتل الإنسان فِعلان يقعان في كلّ حربٍ وكلّ صراع.