عن "الحرقة" وفاجعة جرجيس التونسية والخذلان

10 نوفمبر 2022

تونسيون يرفعون توابيت خلال احتجاج في جرجيس (4/11/2022/فرانس برس)

+ الخط -

قد يكون من غير المجدي تكرار ما وصلت إليه أعمال السوسيولوجيين ودراسات الديمغرافيين عن الهجرة غير النظامية المعروفة بـ"الحرقة"، وما ورد في التقارير الدولية والبحوث المسحية والاستقصائية للمنظمة العالمية للهجرة وللدول الأوروبية وغير الأوروبية من تنامٍ غير مسبوق لهذه الظاهرة، ما يُنذر بتغيراتٍ ديمغرافيةٍ عميقةٍ ونزفٍ حادّ في رأس المال البشري وقواه النشيطة في المجتمعات الطاردة لمصلحة نظيراتها الجاذبة، بالرغم من التبدّل في أساليب شبكات الاتجار بالبشر وعصابات التهجير المعتمدة ومسالكها، على غرار المسلك الجديد التونسي - التركي - الصربي الذي استخدمه حتى نهاية شهر أغسطس/ آب الماضي (2022) قرابة 4000 تونسي بتمويل يصل إلى 5500 يورو للفرد الواحد، حسب التحقيق المنشور في موقع "انكفاضة"، تتقاسمه أطرافٌ عديدةٌ تشترك في عملية التهجير لتأمين الدخول إلى أوروبا قبل الوصول إلى فرنسا. وقد كشفت هذا المسلك أخيراً سلطات الاتحاد الأوروبي التي أجبرت الدولة الصربية على اتخاذ جملةٍ من القرارات التعسّفية للحدّ من تدفق جمهور المهاجرين غير النظاميين العابرين لأراضيها واعتقال مجموع التونسيين الوافدين على مطار بلغراد، ووضعهم في محتشدات جماعية ثم ترحيلهم، رغم استيفائهم الشروط السياحية المطلوبة، وذلك قبل إلزام كل تونسي وجهته صربيا الحصول على تأشيرة الدولة الصربية مُسبقاً بداية من 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.

لعلّ المجدي بعد مزيد فهم الظاهرة وتفكيك شفرتها ومعرفة خفاياها ورهاناتها وفاعليها الجدد وما طرأ عليها من تبدّلات، هو الوقوف على جوانبها الإنسانية وحجم المآسي والآلام والأحزان والأمراض الجسدية والانهيارات النفسية، التي يسبّبها الغرق الجماعي للأهالي ممن يفقدون أبناءهم وذويهم في البحر، فتستحيل آمال الآباء والأمهات في سماع رنين اتصال ينبئ بالوصول إلى شواطئ جزيرة لمبادوزا الإيطالية القريبة من السواحل التونسية رغبة جامحة في استعادة جثّة مفقودٍ يلفظها البحر، لدفنها في قبر معلوم يحمل اسم صاحبها. فقد وشت الإحصائيات التي نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بأن عدد الذين ركبوا قوارب الموت، ووصلوا إلى السواحل الإيطالية، تجاوز 11 ألف تونسي. وفاق عدد الغرقى والمفقودين التونسيين 500 شخص في أثناء الأشهر التسعة الأولى من السنة الحالية (2022)، وذلك بعد أن أحبطت السلطات التونسية 1509 عمليات إبحار سرّية ومنعت 20616 مهاجراً غير نظامي.

في هذا السياق الشائك والمركّب، تتنزل فاجعة مدينة جرجيس في أقصى الجنوب الشرقي التونسي المتاخم للسواحل الليبية، المكنّاة في كبرى عناوين النشرات الإعلامية وصفحات السوشيال ميديا بـ"حادثة 18/18". تمثّلت بغرق مركب يحمل 18 شخصاً أبحروا يوم 21 سبتمبر/ أيلول 2022 في اتجاه السواحل الإيطالية، من بينهم نساء ورضيعة، وأغلبهم دون سن 18 سنة، ينحدر بعضهم من عائلاتٍ محدودة الدخل، وتربطهم روابط القرابة والجغرافيا الاجتماعية والانتماء المناطقي (الحي أو الحومة). وهذه ليست الفاجعة الأولى التي تعيشها جرجيس، التي تعدّ حسب آخر الإحصائيات الرسمية (2014) ما يناهز 76 ألف نسمة، وتمثّل فيافي تقليدية للهجرة إلى فرنسا بما يفوق 40 ألف مهاجر مسجّلين في مختلف القنصليات التونسية على التراب الفرنسي. فقد عرفت المدينة فواجع مماثلة استذكرها الأهالي في أثناء سجالاتهم التاريخية ونقاشاتهم السياسية وتبادل الذكريات المؤثثة لمجالسهم واعتصاماتهم وتجمعاتهم الاحتجاجية ومآتمهم الناتجة من حادثة 18/18 الأليمة. منها ما هو ضارب في التاريخ الحديث للمدينة على غرار "عام القارب" لسنة 1907 الذي قضت فيه مجموعة من بحّارة جرجيس بسبب تفجير سفينة تركية محمّلة بالأسلحة والمتفجّرات من قائدها، أمرهم الحاكم العسكري الفرنسي بمحاصرتها، وقد كانت متّجهة إلى ليبيا العثمانية، وفقدت بوصلتها لترسو قرب الحدود الساحلية التونسية الطرابلسية. ومنها ما يعود إلى أوج الهجرة السرّية من شواطئ جرجيس إلى إيطاليا سنة 2011، بما يفوق خمسة آلاف عابر للبحر، في حادث اصطدام خافرة عسكرية تونسية بمركب "حرّاقة" أدى إلى غرق 30 شخصاً ونجاة 80 آخرين، وكانت الحادثة موضوع تقاضٍ بين الأهالي ووزارة الدفاع الوطني، وحكمت المحاكم التونسية لهم بتعويضاتٍ مالية. ثم جاءت حادثة 2015 التي اختفى فيها غرقاً أو إغراقاً مجموعة من شباب جرجيس، اعتُبروا حسب تصنيف الدولة التونسية مفقودين ولا يُعرف مصيرهم.

برود لافت من رئيسة الحكومة التونسية التي أبدت صمماً تجاه صرخات المكلومين، فلم تكلّف نفسها حتى تنظيم مجلس وزاري للتداول في قضية حارقة

اختلفت وقائع ويوميات حادثة 18/18 عن غيرها من الفواجع التي يعيشها "البحّارة" و"الحرّاقة" في البحر المتوسط، إذ لا تتعلق الواقعة بعملية غرق روتينية يعجّ هذا البحر بمثيلاتها التي تكاد تفلت عن العدّ. ويشهد على صحّة هذا القول الحجم غير القابل للإحصاء لجثث الغرقى التي تلقي بها الأمواج أو تطفو على سطح الماء، بل ترتبط الحادثة بشبهة جريمة إغراق ذهب ضحيّتها مواطنون تونسيون. عوامل كثيرة وراء هذه الفرضية المعقّدة التي يقود إليها تأخر أجهزة الدولة الأمنية والبحرية في القيام بعمليات البحث والتمشيط منذ الأيام الأولى. وبدلاً من ذلك، يجري الترويج وتوجيه أنظار الأمهات الثكالى والآباء المكلومين الملتاعين الباحثين عن بصيص أمل إلى أن أبناءهم ظهروا في ليبيا واتُّصِل بهم ويجري ترتيب عودتهم قريباً، ليتبيّن فيما بعد أن تلك الأخبار الزائفة كانت تخفي تجاوزات وألغازاً وجرائم.

من بين تلك الألغاز وجود مقبرة في تخوم المدينة تحمل تسمية "حدائق أفريقيا"، دشّنتها عام 2021 المديرة العامة لمنظمة اليونسكو، بحضور رموز السلطات المركزية والجهوية والمحلية (وزير السياحة والوالي ورئيس البلدية)، وهي امتداد وتنظيم لمقبرة الغرباء القديمة المتسمة بالعشوائية، وقد خصصت لدفن المجهولين والغرباء ممن يلقي بهم البحر من الأفارقة وغير الأفارقة راكبي قوارب "الحرقة" من ليبيا بصورة خاصة، ناهز عدد قبورها خمسمائة قبر، وبان فيما بعد أن أغلب الجثث التي دُفنت فيها لم تخضع للتحليل الجيني والتثبت من الحمض النووي، كما تنص على ذلك القوانين والتشريعات المحلية والدولية وتعهدات الدولة التونسية تجاه الاتحاد الأوروبي الذي يؤمّن مبالغ للغرض، بهدف حفظ هوية من يلفظهم البحر وتسليم جثثهم أو رفاتهم لذويهم في يوم ما. وينسحب هذا على أربع جثث تعود إلى مفقودين من ضمن قائمة 18/18، أسرعت السلطات المحلية إلى قبرهم كغرباء من دون القيام بإجراءات التحليل الجيني، وجرى كشفهم بعد نضالاتٍ مضنيةٍ وتحرّكات احتجاجية عملاقة وصمود وديمومة، نظمها المجتمع المدني المحلي (جمعية البحار والاتحاد المحلي للشغل بجرجيس) والمجتمع المحلي الاتصالي بصفحاته المؤثّرة ومدوّناته ومدوّنيه الذين كان لهم الفضل في كشف جانب من الحقيقة، والقيام بالتعبئة الشعبية للضغط على السلطة وشدّ أزر عائلات الضحايا.

اختلفت وقائع ويوميات حادثة 18/18 عن غيرها من الفواجع التي يعيشها "البحّارة" و"الحرّاقة" في البحر المتوسط

وقد أدّت تلك التحرّكات والنضالات إلى تنظيم إضراب عام بالمدينة ومظاهرة سلمية حاشدة 18 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) الأكبر عدداً بعد المظاهرة الاحتجاجية الصاخبة التي عاشتها مدينة جرجيس سنة 1982 رفضاً لاحتلال بيروت ومجزرة صبرا وشتيلا، وكانت نتيجتها أعمال قمع وحملات اعتقال واسعة ومحاكمات. لم تتوقف أعمال تمشيط سواحل جزيرة جربة وجرجيس وبنقردان وخليج قابس من جمعية البحار التي عوّضت تقصير الدولة وأجهزتها الصلبة البحرية، وأفضت عمليات التمشيط إلى العثور على ثلاث جثث أخرى، ليستقرّ عدد المفقودين في حدود الـ11 مفقوداً بعد شهر ونصف شهر على الحادثة المأساوية الغامضة. وبالتوازي مع ذلك، تحوّل حراك 18/18 إلى ما يشبه الانتفاضة السلمية المستمرّة النشطة تحت شعار "وينهم جثث ذريتنا"، من حلقاتها كذلك المظاهرة السلمية ليوم 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري التي رفع فيها المتظاهرون على أكتافهم 11 نعشاً تلفها الراية الوطنية، في إشارة رمزية، مفادها بأن حراك 18/18 لن يتوقّف إلا بكشف الدولة التي ترصد أجهزتها الاستخباراتية كل شاردة وواردة على امتداد أراضي تونس وبحارها، مصير بقية جثث المفقودين وإكرامهم بدفنهم في مقابر أجدادهم وذويهم، بدلاً من قبرهم تحت جنح الظلام في مقابر الغرباء.

قوبل حراك 18/18 الذي يأبى التوقف والنسيان ببرودٍ لافتٍ من رئيسة الحكومة التونسية التي أبدت صمماً لا مثيل له تجاه صرخات المكلومين، فلم تكلّف نفسها حتى تنظيم مجلس وزاري للتداول في قضية حارقة، وأصاب الخرس الوزير الناطق الرسمي للحكومة، فلم ينبس ببنت شفة تجاه مأساةٍ اهتزّ لها الرأي العام الوطني، وواكبتها بكثافة، وأخبرت عن حيثياتها وسائل الإعلام الوطنية والدولية، بعد أن صنّفتها من الأحداث الكبرى ذات الأولوية. واكتفى الرئيس قيّس سعيّد ببعض الأسطر اليتيمة على صفحة رئاسة الجمهورية على "فيسبوك"، منها ما نُشر يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول، أشار فيها وهو يتحدّث مع وزير الداخلية إلى أن "ظاهرة الهجرة غير النظامية تفاقمت في المدة الأخيرة، وخلّفت فواجع عديدة على غرار فاجعة جرجيس"، من دون متابعة جدّية واستقبال عائلات المفقودين في قصر قرطاج أو التحول إلى المدينة الجنوبية وتقديم واجب العزاء، وهو الذي أسرع، في أحداث أقلّ أهميةً مقارنةً بحجم الفاجعة، إلى السفارة البريطانية لأداء العزاء في وفاة ملكة بريطانيا، وكان قبل ذلك قد سارع بالتنقل إلى مقرّ إقامة السفير الفرنسي عندما تناهى إلى سمعه وجود نفق سرّي يؤدّي إلى تلك الإقامة، ولم يتأخر في الإشراف بنفسه على جلسة تأسيس أول شركة أهلية بمدينة بني خيار بالوطن القبلي. وهو ما اعتبره الرأي العام سلوكاً متعالياً من الرئيس على جزء من شعبه وعدم الإنصات لمشاغله والإحساس بمآسيه، وصنّفته قوى المجتمعَين، المدني والسياسي، تنكّراً للناخبين الذين أعطوا أصواتهم لقيس سعيّد في انتخابات 2019، ليكون رئيسهم الذي يحمل معاناتهم ويتألم لآلامهم وملاذهم الذي يؤويهم في محنهم، فيفرّج كربهم، وصوتهم الذي يعلو فوق كل الأصوات، فإذا به يقابلهم بالنكران والتجاهل والغياب والخذلان.