لمّا أفرج سعيّد عن موعد الانتخابات الرئاسية
بصدور البلاغ (البيان) الرئاسي المُقتضَب، الذي احتكرت نشره صفحة رئاسة الجمهورية التونسية في "فيسبوك"، وفيه "أصدر رئيس الجمهورية قيس سعيّد، هذا اليوم الثلاثاء، 2 يوليو 2024، أمراً يتعلّق بدعوة الناخبين للانتخابات الرئاسية يوم الأحد، 6 أكتوبر (تشرين الأول) 2024"، يكون سعيّد قد أفرج عن موعد الانتخابات الرئاسية التونسية. سُئل مرّات عدّة عن الموعد، ولكنّه، كما في كلّ مناسبة انتخابية أو سياسية لها كبير الأثر في مستقبل البلاد والعباد، تحلّى بالكتمان الشديد في قضاء حاجته الانتخابية، وقد يكون وراء كتمانه التزاما بالحديث النبوي الشريف "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإنّ كلّ ذي نعمة محسود"، وحُسّاد الرئيس ومنافسوه على نِعَم المنصب وكرسي قرطاج الوثير كُثر، أو قد يكون الرئيس يستند في تكتّمه القوي إلى قاعدة مذهبية يُطلِق عليها فقهاء الشيعة "التقيّة"، وما تستدعيه من جَلَد وصبرٍ ومغالبة النفس حتّى بلوغ مرحلة التمكين. وهي مقاربةٌ في الحكم جوهرها وكنهها الحقيقي فكرة "ولاية الأمر" وإن تجلّت في ثوبٍ جمهوري، فولي الأمر هو من يُقرّر، والرعية وإن تقمّصت دور الشعب، ليس لها إلّا أن تنتظر قرار رئيسها لتتدافع زرافاتٍ ووحداناً مبايعةً إيّاه، ولا ضير إن سُميت البيعة انتخابات.
بقي موعد الانتخابات الرئاسية التونسية سجين أدراج مكتب الرئيس في قصر قرطاج أشهراً طويلة، فهو من أخبار الرئاسة التونسية وعلومها، التي لا يُتقن فنونها إلا الرئيس، أو ثلّة من العرّافين والمنجّمين السياسيين المُقرّبين الأوفياء الصادقين، الذين تباروا في تحديد يوم التباري على المنصب الرئاسي مُستفيدين ممّا أتاهم من أنباء النجوم والأبراج والتعاليم الاستعلاماتية. حتّى الهيئة المُستقلّة للانتخابات، التي تَدَّعي الولاية الكاملة على الشأن الانتخابي التونسي، لم يكن لها من علم الانتخابات الرئاسية التونسية إلا ما علَّمَها رئيس الجمهورية. أمّا الأحزاب السياسية والنقابات العمّالية واتحادات الأعراف والفلاحين المهنية، ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، والأجسام الوسيطة المدنية كافّة، التي دأبت تاريخياً على تمثيل مختلف الشرائح الشعبية، فقد شُطبت نهائياً من دستور 25 يوليو (2022)، ولم يَعُد الرئيس سعيّد ودوائر حكمه يعيرونها أهمّيةً أو يعترفون لها بأيّ دور في المناسبات الانتخابية والعملية السياسية، لتنازعها أيّام الرخاء الديمقراطي، وتخاصمها واقتتالها، ففشلت وذهبت ريحها، وفقدت مجدها الذي كان يُؤمّنه لها دستور 27 يناير (2014)، وهو الدستور الذي أعطى أحقّية تحديد تاريخ الانتخابات، رئاسية كانت أو تشريعية أو محلّية، للهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات، المُنتخبة انتخاباً مباشراً من أعضاء البرلمان التونسي، بعد التشاور مع الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني، والكتل البرلمانية، وكلّ من يمتلك التمثيلية، وفق أعراف تمّ نحتها في الذاكرة السياسية الجماعية رديفاً للديمقراطية التونسية، قبل وأدها يوم 25 يوليو (2021)، وقيام الدولة التسلّطية.
الإعلان عن موعد الانتخابات الرئاسية التونسية نفَّس كربة أوفياء الرئيس ومواليه وأعضاء تنسيقيّاته، ومكوّنات بنائه القاعدي ومجالسه المحلّية، بعد أن تَسرّب إليهم الشكُّ الذي راود جموعاً كثيرة من النخب ومن عوام المواطنين التونسيين، من إمكانية تأجيل الاقتراع على المنصب الرئاسي، فتفتّقت قريحة المُفسّرين حول يوم السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، بما هو رمز العبور، عبور قناة السويس من الجيش المصري في حرب 1973، وعبور قيس سعيّد إلى خمسية حكم جديدة يوم السادس من أكتوبر 2024، ناسين أو جاهلين أنّ السادس من أكتوبر لم يكن يوم عبور فقط، وإنّما هو عنوان تحريك عسكري وسياسي انتهى هزيمةً استراتيجيةً أدّت إلى الاعتراف بالصهيونية ودولتها عام 1978، فيما تُسمّى معاهدة كامب ديفيد، ولم تغسل ذلك العار إلّا ملحمة غزّة في 7 أكتوبر (2023).
برز التضييق على الانتخابات بوضوح من خلال تتبع الإعلاميين والصحافيين، ومحاكمة ثلّة منهم
وجد بعضهم في تحديد موعد الانتخابات فرصةً لمناشدة الرئيس الترشّح، بالطرق نفسها التي كانت تُعتمد في مناشدة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وهو الذي لم يعلن نيّته خوض الاستحقاق الانتخابي الرئاسي بعد، رافعين شعارات من قبيل "لا بديل عن قيس سعيّد سوى قيس سعيّد" و"قيس سعيّد رئيساً 2024 - 2029"، وغير ذلك من مقولات وشعارات مُسيئة لسعيّد نفسه، وتُحيل إلى إعادة إنتاج ثقافة سياسية بائسة، قوامها ما يسمّيه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو "التفويض والصنم السياسي La délégation et le fétichisme politique"، لم تستطع التجربة السياسية الديمقراطية التونسية غسل ما خلّفته من أدران وعلاج ما أفرزته من عاهات وأمراض.
المعارضون باختلافاتهم الأيديولوجية والسياسية، وكذلك بعض الموالين مولاةً نقديةً للرئيس سعيّد ومسار 25 يونيو/ حزيران (2025)، تعاملوا مع إفراج الرئيس عن موعد الانتخابات الرئاسية بحذرٍ ملحوظ، مُعتبرين أنّ وجود تزامنٍ بين تحديد الموعد وفتح أبواب السجون أمام بعض الشخصيات السياسية وقادة الأحزاب ودعوة آخرين للتحقيق معهم أمام دوائر قضائية وإصدار أحكام غيابية في حقّ فريق ثالث، ينزع الثقة عن الموعد الانتخابي، ويجعل من المناخات السياسية الراهنة مُنفّرةً لكلّ ترشّح ومشاركة. ذلك أن ثلاث شخصيات سياسية معروفة، ممّن أعلنوا الترشّح، يقبعون في سجن المرناقية، وهم، على التوالي، الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، ورئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسى، وأُضيف إليهم قبل أيام قليلة الأمين العام للاتحاد الشعبي الجمهوري لطفي المرايحي، طبيب وكاتب له خمسة كتب منشورة. هذا إضافة للصافي سعيد، الكاتب السياسي والروائي غزير الإنتاج المحكوم غيابياً بأربعة أشهر سجناً، والوزير والنائب السابق والأمين العام لحزب العمل والإنجاز عبد اللطيف المكّي، المُستدعَى للمثول أمام المحكمة يوم 12 يوليو، في ما يعرف بقضية الجيلاني الدبوسي.
برز التضييق على الانتخابات بوضوح من خلال تتبع الإعلاميين والصحافيين، ومحاكمة ثلّة منهم، وإصدار أحكام بالسجن في حقّهم، وجديد تلك الأحكام أخيراً الحكم الصادر يوم السادس من الشهر الجاري (يوليو/ تمّوز 2024)، بسنة سجن على الإعلامية والمحامية سنيّة الدهماني، على خلفية القول بالعامّية التونسية في برنامج تلفزيوني "هاكي البلاد الهايلة"، والمقصود بذلك تونس، حتّى يستقرّ فيها أفارقة جنوب الصحراء من المهاجرين غير النظاميين، فالغاية من وجودهم هو العبور إلى أوروبا، وقبل أشهر قليلة حوكم زميلَاها في المؤسّسة الإعلامية نفسها، برهان بسيس ومراد الزغيدي، وصدر في حقّ كلّ منهما حكم بسنة سجناً.
سعيّد يفتقد منجزات مادّية حقيقية يمكنه التباهي بها أمام خصومه السياسيين، فسجله خمس سنوات لا يتضمّن مشروعاً اقتصادياً أو تنموياً واحداً
مبرّرات كثيرة تقف وراء التحفّظ على الانتخابات الرئاسية التونسية، والتضييق عليها، والخوف ممّا تخفيه نتائجها من مفاجآت، ذلك أنّ الرئيس سعيّد يفتقد منجزات مادّية حقيقية يمكنه التباهي بها أمام خصومه السياسيين، فسجله خمس سنوات لا يتضمّن مشروعاً اقتصادياً أو تنموياً واحداً وضع له حجر الأساس أو دشّنه، ينافح به عن فترة حكمه، إلّا ما هو منسوب إلى ما يسمّيها أنصاره "العشرية السوداء"، مثل تدشين طريق قابس راس جدير، في الثالث من فبراير/ شباط 2023، ومحطّة تحلية المياه في قابس يوم السابع من يوليو/ تموز 2024، التي تعود إلى سنة 2018، أو الاحتفاء بإعادة فتح جامع القصبة بعد ترميمه فجر اليوم نفسه، في مشهد سِمَتُه الخواء، يذكّر بتدشين مقهى من قبل مجموعة وزراء حزب نداء تونس سنة 2016.
وفي المجال السياسي، ما قام به الرئيس سعيّد هو تفكيك مؤسّسات الدولة التونسية، ومنع العمل بنصوصها الأساسية، واستبدالها بدستور أُحادي يُكرّس السلطة المطلقة للرئيس، التي هي مَفسَدة مُطلقة، وبغرفتَين تشريعيَّتَين صوريَّتَين لا تتمتَّعان بالمشروعية الشعبية، إحداهما لا عمل لها سوى المصادقة على القروض المُشطّة الفوائد باعتراف نوّابها، والثانية لا سلطة ولا وظيفة لها ولا قانون يُنظّم عملها، وتدجين المؤسّسة القضائية، وجعلها مُجرَّد وظيفة تابعة لسلطة الرئيس التنفيذية انتفى فيها العدل وغابت عنها العدالة، والتبشير بالشركات الأهلية والصلح الجزائي، مشروعَي الرئيس الهُلاميَّين.
كانت ثلاث سنوات من الحكم الفردي كافيةً ليفقد الرئيس سعيّد تدريجياً مساندة أغلب من ناصروه يوم 25 يوليو/ تموز، فلم يعد في صفّه جلّ الأحزاب السياسية من إسلاميّين، وهم الذين كان لهم دور ملموس في صعوده في 2019، ودستوريّين ويساريّين وقوميّين أيّدوه سنة 2021، وأصبحت تشقُّهم خلافات عميقة، وتخلّى عنه الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة وإن لم يفصح عن ذلك تجنّباً للوقوع تحت طائلة الصلح الجزائي، والهيئة الوطنية للمحامين في تونس، والنقابة الوطنية للصحافيين التونسيّين ومختلف الهياكل الإعلامية، فلأغلب هذه الشرائح السياسية، وغير السياسية، مَنْ يُمثّلها اليوم في السجون التونسية. وتلظّت من سياسات حكومات سعيّد، المُفتقِدة للكفاءة والمعرفة بنواميس الحكم والروح الشعبية، الطبقاتُ الوسطى بعد أن سُلّطت عليها سياسة تفقيرية متأتية من الارتفاع الحارق للأسعار والتضخّم العالي، وتدهور الدينار وتجميد الأجور والجباية المُشطّة، فانحدر أغلبها في سلّم التراتب الاجتماعي إلى مستوى الطبقات المُضطهَدة والفقيرة. ولم يجد المُعطّلون عن العمل، وهم الذين يتجاوز عددهم 600 ألف، أغلبهم من خريجي الجامعات، مكانةً في الوظيفة العمومية أو القطاع الخاص، أو في سياسات الدولة التشغيلية، فاضطروا إلى ركوب البحر، منهم من وصل إلى السواحل الإيطالية، ومنهم الفقيد. وتعاني شرائح شبابية واسعة، تمارس نشاطها افتراضياً وتُقدّم أعمالاً وخدمات عن بعد، تكسب من خلالها أموالاً من الخارج، فتصطدم بتشريعات الدولة التونسية العتيقة والمُتخلّفة، أو تُعبّر عن آرائها في مواقع التواصل الاجتماعي، من الملاحقات الأمنية والقضائية والأحكام الجائرة بالسجن والخطايا المالية من جرّاء تطبيق المرسوم 54، وخاصّة فصله الـ24.
تسير سياسة سعيّد الانتخابية بُخطىً حثيثة في درب زين العابدين بن علي، في جعل الانتخابات مُجرَّد حدث لتجديد البيعة للرئيس
من الواضح أنّ سياسة الرئيس قيس سعيّد الانتخابية تسير بُخطىً حثيثة في درب بن علي، في جعل الانتخابات مُجرَّد حدث لتجديد البيعة للرئيس، مع ما يقتضيه ذلك من وجود مُرشّح أو مُرشّحي ديكور لديهم الاستعداد للعب دور "الكومبارس"، الأمر الذي يُحوّل الانتخابات من حالة احتفالية وطنية وشعبية تدخل البيوت والأحياء والمدن والأرياف كلّها، والفضاءات العامّة كافّة، لتجديد الخطاب السياسي وبعث الحياة والأمل في أجيال جديدة من السياسيين، والافتخار بالتداول السلمي على السلطة، إلى حدث مأتمي لا يَحتفِل به إلّا صاحب السلطة الجالس على كرسي الرئاسة.
يحتاج الرئيس سعيّد إلى أخذ العبرة من التاريخ ووقائعه، وعدم الاكتفاء باستحضاره شكلياً، وذلك قبل فوات الأوان، عليه أن يتأمّل جيداً في ما انتهى إليه وضع الدستوريين بعد 55 سنة من الحكم المطلق، فإذا بهم ينتقلون إلى المعارضة، ويكون مصير رئيسة حزبهم السجن، وأن يقرأ درس الإسلاميين مليّاً، وهم القادمون من السجون والمنافي إلى هرم السلطة والحكم، الأمر الذي أعادهم إلى المنافي والسجون، وهو ما يتجسّد من خلال تجربة راشد الغنّوشي المأساوية.
أمام الرئيس سعيّد فرصة تنظيم انتخابات رئاسية ديمقراطية شفّافة يختار فيها الشعب رئيسه بكلّ حرّية على قاعدة الترشّح الحرّ والنزيه، بعد إفراغ السجون من مساجين الرأي والسياسة وضمان حرّية الإعلام والإعلاميين، حينها فقط سيضمن لنفسه كرسيّاً مرموقاً ومكانةَ عاليةً في صفحات التاريخ وذاكرة الأجيال وسجلّ الأكابر والعظماء، كما يُمنّي النفس دائماً، أمّا كرسي السلطة، فهو إلى زوال محتوم طال الزمان أو قصُر.