عن "الإقليم السنّي"
في أواخر التسعينيات، كان في المتداول مع الثورة الشيشانية الأولى التي اندلعت في 1999 أن الجيل الذي كان عماد الثورة تربّى على مدارس القرآن في الكهوف والمغاور الجبلية البعيدة عن أعين السلطة السوفييتية (الملحدة)، وأن سبعين سنة من حكم النظام الشيوعي لم تستطع نزع الإسلام من نفوس الشيشانيين.
قيل الأمر نفسه عن سحق الشيعة في انتفاضة 1991 في العراق التي نعيش في هذه الأيام ذكراها الـ33، ثم استمرار نظام الاستبداد في عقد التسعينيات الذي ضيّق على الشيعة حتى لحظة الاحتلال في إبريل/ نيسان 2003، حين طفت على سطح الأحداث صور الزيارات المليونية في ذكرى الأربعين الحسينية بعد شهر من زوال نظام صدّام. وكأنّ كلّ جهود التضييق على طقوس الشيعة على مدى عقود ذهبت أدراج الرياح.
من هذين المثاليين، وأمثلة أخرى كثيرة، يمكن أن نستنتج أن التضييق على حريّات الناس لن ينزع منهم توقهم إلى الحريّة أبداً. ربما يتصالحون مع واقع الاستبداد، ولكن أحلامهم لن يخفُت ضوؤها أبداً، وتبقى تحت السطح متوهّجة، تنتظر اللحظة المناسبة كي تطفو على السطح، حتى ولو بعد سبعين سنة.
في قناعة باحثين كثيرين كان الوعيان، القومي الكردي والطائفي الشيعي، قويين وحاضريْن منذ بدايات تأسيس العراق الحديث في عشرينيات القرن الماضي، لكنّ السنّة العراقيين لم يكونوا في وضع يستوجب استدعاء الهوية الطائفية على مدار الوقت، لأنهم متماهون مع فكرة الدولة منذ أيام الدولة العثمانية ذات العقيدة السنيّة الحنفية، وهذا لا ينفي "الوعي" بالهوية الطائفية، وإدراك السنّة أنفسهم جماعة داخل الوطن العراقي حديث النشوء. لكن ارتباط السنّة التقليدي مع الحركات الوطنية والقومية جعلهم يتخفّفون من الحدود الضيّقة للطائفة ومتبنّياتها.
صار الوعي الطائفي ضاغطاً وقاهراً بعد 2003، ودخلت الجماعات السنيّة العراقية، الحضرية والريفية، العلمانية والإسلامية وغيرها من التنويعات، في تحدٍّ عصيب، أن تعرّف نفسها، بالرغم من كلّ التنوعات، على أساس طائفي، وأن ترضى بحصّتها من تقسيمات النظام الطائفي الذي تشكّل، ونقل الوعي الطائفي إلى مستوى جديد وغير مسبوق في الدولة العراقية.
صار العنوان الوطني بلا معنى، فحتى لو كنتَ ملحداً وعدمياً، فإن الفاعلية المنتظرة منك في الفضاء العام يجب أن تمرّ عبر العنوان الطائفي. أما "الوطنية" فلم تعُد رؤية أو إيديولوجيا، وإنما مجموع عددي للطوائف والجماعات السكّانية العراقية. على الرغم من أن الفرضية الأساسية التي بني عليها نظام ما بعد 2003 هو بناء المؤسّسات التي تعمل في داخلها الجماعات المختلفة، وتكون الوطنية هي حصيلة عمل المؤسّسات والخطاب الموحّد للدولة التي تفلتر الميول الفئوية وتشذّبها، بسبب سياقات عمل الدولة وقوانينها الوطنية. أما موضع ممارسة المحدّدات الطائفية والعرقية فهو المجال الاجتماعي العام، وليس مؤسّسات الدولة.
كان القبول بالنظام الطائفي يعني قبولاً بفكرة الشراكة، لكن تطوّرات الأحداث من تلك اللحظة، وتحديداً في اليوم التالي لخروج الأميركيين من العراق في أواخر 2010، فجّرت فكرة الشراكة، وقادت إلى خضوع تام، في نهاية المطاف، من النخب السياسية السنيّة، إلى منطق إدارة الدولة وفق هوى التيارات والأحزاب الإسلامية الشيعية ومزاجها.
اليوم تطفو على السطح، من جديد، فكرة الفدرلة، والحديث عن الإقليم السنّي، وعلى الرغم من قناعتي بأن هذا الخيار لن يُتاح له أن يجد مساراته الواقعية على الأرض، ولكن ما يربض خلفها هو الشعور السنّي، عند فئاتٍ كثيرة، بعدم العدالة، والاضطهاد، وصعوبة نيل الحقوق. وأيضاً الشعور بعجز النخب السنيّة المتصدرة للمشهد عن مواجهة "الطغيان" الإسلامي الشيعي.
ما لا تريد التعامل معه النخب الإسلامية الشيعية أنها تفرض على الآخرين المسار نفسه الذي مرّت به الجماعة الشيعية في العراق عبر مائة سنة من تاريخ الدولة العراقية الحديثة، وتتصوّر أنها بالسطوة والتضييق قادرة على نزع فكرة الشعور بالاضطهاد من النسبة الغالبة من العراقيين السنّة.
لن يكون ضمان المستقبل الآمن للشيعة أنفسهم باستعادة فكرة الاستبداد والقهر، وإنما بالتصالح مع الجماعات السكانية المختلفة داخل العراق، وعقد سلام عميق ودائم معها، فأنت تستطيع بسطوة القوة أن تسكت الجميع، لكنّك لن تستطيع تغيير أفكارهم أبداً، وقد تكون أفكاراً عدمية مدمّرة، ترقد تحت السطح الساكن مثل قنابل مستقبلية.