عن أسود رام الله بالمناسبة

02 نوفمبر 2021

تماثيل الأسود في ميدان المنارة في رام الله بعد الاعتداء عليها (مواقع التواصل)

+ الخط -

وسط حالةٍ من الذهول البالغ، وفيضٍ دافقٍ من مشاعر الاستهجان والغضب الشديديْن، تابع المهتمون، قبل أيام، واقعة الاعتداء الآثم على أحد تماثيل أسُود العائلة الذهبية الرابضة، منذ عقود مديدة، على مستديرة ميدان المنارة في مدينة رام الله، كما هزّ المصدومين من الأعماق بهذا الحدث الشنيع أن ارتكاب هذه الفعلة الحمقاء قد تمّ باسم الدين، وجرى تنفيذه تحت شعار محاربة الأصنام، وفوق ذلك أن هناك جهة ظلامية قد حرّضت لمقارفة هذا الاعتداء الهمجي، وشجّعت على القيام به في وضح النهار، تحدّياً لمشاعر عامة الناس، وللنظام العام، بل وأمام أعين المارّين بالميدان الأشهر في المدينة، المشهود لها بالانفتاح والإخاء والوطنية والتسامح ونبذ الغلو، ناهيك عن اعتدال المزاج والمناخ.
والحق أن هذه الحادثة الصادمة لكل ذي عقل سويّ قد أصابت وجدان كاتب هذه الأسطر في الصميم، ليس فقط لأنها فعلةٌ عمياء، وتنضح بالغباء، وإنما أيضاً لأنها ثلمت ذاكرة الفتى الذي عاش قسطاً من عمره في رام الله، تعلّم في مدرستها الثانوية، وتسكّع، مع مجايليه طويلاً، حول ميدانها، وكان يروقه منظر الأسُود الخمسة المتوثبة في مستديرتها المسيّجة بقفصٍ حديدي، سيما، وهو الفتى الذي لم يقع بصره على أسدٍ من قبل، سوى على صور ملك الغابة، بالأبيض والأسود في الكتب المدرسية، الأمر الذي ضاعف من وطأة انفعاله بالفعلة القبيحة، وعمّق الشجن في مشاعره المسكونة بحنينٍ لا شفاء منه، لمدينة باذخة الأثر والحضور في تكوينه المعرفي والاجتماعي.
بدا تحطيم رأس الأسد أمرا خاصا أكثر من كونه شأناً عاماً، بالنسبة للفتى الصغير القادم، في حينه، إلى رام الله، من ريفها المجاور مع أمه، للاستشفاء أو لأي أمر آخر، كما بدت الواقعة بمثابة اعتداءٍ شخصيٍّ على صورته القديمة عن نفسه المليئة بحبّ الاستطلاع والأسئلة التي كانت تبلبل بلباله، وأيضاً على ذكرياته لمّا كبر قليلاً، وصار يزور المدينة المترفة كثيراً، حيث كان ذهابه إلى رام الله يحاكي لديه، بمعايير الزمن الراهن، ذهاب مكسيكي إلى لاس فيغاس، أو هبوط صعيدي إلى القاهرة، وذلك لفرط احتفاله بمبهجات الزيارة السريعة. كما كان ميدان المنارة نقطة الوصول المفضّلة لديه، وموضع اللقاءات والمواعيد والمصادفات مع أترابه، لم يسأل أحداً منهم، وحتى لم يتساءل بينه وبين نفسه عن معنى وجود تلك الأسُود المنحوتة من الصخر الوردي في الميدان، ولا عمّن أتى بها إلى هذا المكان، حيث لم يكن يشغل عقل الفتى مفهوم الرمزية بعد، أو تهمه دلالتها التاريخية، بل كان يشغل باله أكثر سؤال: من أين استمد هذا الميدان اسم "المنارة" في مدينةٍ داخلية بعيدة عن المرافئ البحرية؟
لم يلتفت الإعلام العربي إلى هذه الحادثة الخارجة عن مألوف الأخبار اليومية الفلسطينية الغاصّة بالقمع والقتل والمصادرات، إما لأنها تفصيل صغير، أو لاعتبارها شأناً لا قيمة خبرية له، وسط سيلٍ من الأحداث العربية الساخنة، غير أن الإعلام الفلسطيني، خصوصا وسائل التواصل الاجتماعي، أولت هذا الحدث المشين لأصحابه عنايةً مكثفة، ورأت فيه عدواناً سافراً على تراثٍ تليد، ومسّاً بقيمه المتفتحة على الحداثة وروح العصر، كما أجمعت على وصفه عملا إرهابيا مدانا، وطالبت بمنع مثل هذه الغيمة السوداء من المرور في فصاء فلسطين السياسي والثقافي، وخلع هذه النبتة السامّة من الجذور، خصوصا من تراب رام الله، المحتضن رفات شخصيتين خالدتي الذكر، ياسر عرفات ومحمود درويش.
على الصعيد الشخصي، نفضت الفعلة الذميمة غباراً كثيفاً عن أوراقٍ مطويةٍ في ذاكرة الفتى الممنوع من زيارة رام الله، وأثارت لواعج كثيرة بين جانبيه المثقليْن بقناطير من الآمال المقصوفة والآلام التي لا يُباح بها، فقد تذكّر الذي كبر في الشتات، وتوغّل في العمر والصبر والزهد، وصار يُكثر من استعادة صور عتيقة من الماضي الحميم، أن أول مظاهرةٍ شارك فيها، ولم يعد يفطن مناسبتها أو أيا من شعاراتها، كانت في رام الله، وأن أول لفحة صقيع غمرت قلبه ناجمةٌ عن أول تجربة حبٍّ فاشلة، وقعت هي الأخرى في المدينة المحتشدة بالأنسات الصغيرات الجميلات، المعشوقات من طرف واحد، وأن أول محاولات الكتابة، سيما الشعر، كانت كذلك في المدينة التي كبرت في غيابه، وصارت العاصمة المؤقتة لأول كيانٍ فلسطينيٍّ ممهد لإقامة أول دولة ديمقراطية حرّة مستقلة، مهما طال الوقت.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي