عن آباء غائبين في غزّة
أثارني تسجيل صوتي للدكتور عدنان البرش، الذي قضى نحبه في معتقل عوفر الإسرائيلي بعد خطفه عدة أشهر من مستشفى العودة في جباليا في شمال قطاع غزّة. وعلى الرغم من النهاية الأليمة للطبيب الشجاع الذي أصرّ على البقاء مع مرضاه وعدم مغادرة المستشفى في أثناء حصار الاحتلال له، وعلى الرغم مما تناولته وسائل الإعلام عن بطولات الطبيب الراحل وما قدّمه من خدمات جليلة للمرضى، قبل الحرب أو خلالها، فالتسجيل الصوتي الذي لفتني هو ما تحدّث به الطبيب عن إجلائه زوجته وأطفاله من البيت وحرصه على الاطمئنان على سلامتهم. ولفتني بعد وفاته لقاء مع طفله الأكبر بين إخوته، تحدّث فيه عن الطبيب الأب الذي كان يعمل على مدار الساعة لخدمة المرضى الفقراء، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يخصص يوم الجمعة من كل أسبوع لعائلته، حيث يخرج بهم منذ الفجر باتجاه البحر لتمضية وقت طيب برفقتهم وتعليمهم السباحة، وأنه كان يعتبر هذا اليوم مقدّساً بعد عناء الأسبوع لحرصة على ألا يكون أباً غائباً بسبب شهرته وتهافت المرضى عليه من كل أنحاء القطاع، خصوصاً الفقراء منهم، وحيث كان يخصّص لهم يوماً مجانياً للعلاج.
بدت إمارات الحزن واضحة على وجه الطفل الصغير، يزن، وهو يصف، بصوت لا يخلو من فخر، بطولة والده الراحل، وحرصه على الاتصال بهم وتشجيعهم وشدّ أزرهم رغم حصاره في المستشفى، وحاجته أكثر منهم لمن يشجّعه ويشدّ من أزره، فقد كان الطبيب الراحل الذي قضى أربعة أشهر في سجون الاحتلال وقبل اعتقاله في حالةٍ لا توصف، فلا يمكن تخيّل أن طبيباً يستطيع أن يقوم بعمله داخل مستشفى محاصر من الأرض والجو، والقتلى يسقطون بين قدميه وهو ما زال واقفاً يحاول أن يسعف آخرين أصيبوا خلال حصار المستشفى أو نقلوا إليه من أماكن قصف متفرّقة.
لا يمكن أن تتغيّر صورة الأب الفلسطيني، ولا يمكن أن تكون هناك إلا صورة الأب التي تبقى في الذهن، وفي ثنايا الروح، ومستقرّة في خبايا النفس، مهما مرّ الزّمن وطوت السنون الصورة التي تبهت رويداً رويداً في عيون الآخرين، ولكن ذلك لا يحدُث مع الأبناء الذين لا يتوقّفون عن تذكّر الأب الذي ضحّى من أجلهم، فلا يمكن أن ينسى طفلٌ صغير أباه الذي أصرّ على إجلائه مع أمّه وإخوته من البيت، والطائرات المسيّرة تطرّز السماء فوقهم، والدبّابات تطلق قذائفها من الحدود، وحين اطمأن بشأن إجلائهم من طريق ظنّ أنّه أكثر أماناً، وقرّر أن يخرج بعدهم، اصطادته رصاصة أطلقتها طائرة مسيّرة، فسقط على بعد أمتار من مرأى عيونهم، ولكنّهم لم يستطيعوا العودة لنجدته، أو حتى إلقاء نظرة أخيرة عليه، فيما كان يلوّح لهم بذراعه أن يبتعدوا خوفاً عليهم، قبل أن تهمد هذه الذراع إلى جواره مطمئناً لنجاتهم.
ولا يمكن أن نتخيّل حال الآباء وشعورهم حين أصرّوا على إجلاء أطفالهم مع أمّهاتهم من شمال غزّة نحو جنوبها في رحلة نزوح شاقّة، وظلّ الأب في الشمال المحاصَر، لأن الأوامر المتذبذبة والمتضاربة اقتضت في منطقة ما تعرّضت للحصار في شمال غزّة خروج النساء والأطفال فقط، فأسلم الأب عائلته للطريق الشاقّ، وبقي ينتظر مصيره المجهول، والذي يراوح بين الاعتقال والتنكيل أو القنص والموت، ورغم رفض الأم وأطفالها أن يفترقوا، إلا أنهم يذعنون أخيراً لإصرار الأب على نجاتهم.
أما الآباء الأبطال الذين قضوا وهم ينتظرون كيساً من الطحين ساعات طويلة والدبابات تحاصرهم بقذائفها وتحوم فوق رؤوسهم الطائرات المسيّرة التي تطلق الرصاص بلا هوادة، فمثل هذا الأب الغائب لا يمكن أن يتحوّل إلى صورة باهتة، فهو يرحل ويترك خلفه رسائل لا تُكتب ولا توصف، ولكن تراها في مآقي الأطفال الذين يستيقظون في الخيام، ويعانون أكثر مما كانوا، حيث غاب الأب وأصبح عليهم أن يصبحوا آباءً صغاراً لأخواتهم البنات، وهؤلاء يكبرون سريعاً لأن الحمل الذي يتركه الأب الغائب يكون ثقيلاً، وشهادات الناجين من المجازر على مرّ تاريخ النضال الفلسطيني شاهدة على أطفالٍ تربّوا يتامى، ولكنهم أصبحوا رجالاً يُشار إليهم بالبنان.