عندما يهرب دوغين من فوكوياما إليه
وهو يشتري لوحة، أخبرني أحدهم أنّها ستنقلب على جداره تارة أو تارتين. لم أفهمه جيداً، فسّر أنّه حين يملّ من حائطه يقلب لوحاته، حتى صورُ الأشخاص رؤوسُهم تصير عقباً... هي طريقة غريبة للتعامل مع الصور على الجدران ومطروقةٌ مع الأفكار. أسباب صاحبي مع لوحاته مختلفة عن أسباب أحزاب الأنظمة الرسمية التي انتقدها فريدريك إنجلز في مقدمته كتاب مقالات ماركس "الصراع الطبقي في فرنسا" لمحاولتها التخلصَ من أثر القوانين التي شرعتها بنفسها، واصفاً ذلك بقلب كلّ شيء رأساً على عقب. المفارقة أنّ ماركس نفسَه قلَب الفلسفةَ رأساً على عقب، خصوصاً فلسفة هيغل.
وجدت معركة ماركس صداها في مكان آخر، إنما لم تجد انعكاسَها الأيديولوجي إلّا خارج إطارها الجغرافي. روسيا والصين وكوبا وكوريا الشمالية واليمن الجنوبي وأمثالُها أُثقِل قاعُها بالألم، فهربت إلى الشيوعية. من المثير أنّ الانقلاب في ما اختطّه لينين وخلفاؤه مختلف. أراد بالقوة تحقيق نبوءات صاحب "رأس المال" جاهداً لقلْبَ الأشياء بالقضاء على ثنائيةِ رأسٍ وعقب. حصل ذلك ظاهراً. وفي الجوهر، كان ستالين وماو وكاسترو امتداداً طبيعياً للصورة نفسِها المنقلَبِ عليها. عادت السياقاتُ ذاتُها، مع تغييرٍ هو أنّ العقب صار رأساً، فرجعت البيروقراطية وسيطرتْ مجموعةٌ صغيرة على الثورة والحكمِ واستبدّ فردٌ بالسلطة، ومَن كانوا في القاع انتقلوا إلى الأعلى.
من بيئة ذلك الصراع، حين كان يلفظ آخر أنفاسه، ظهر ألكسندر دوغين مفكّراً روسياً تنقّل بين الأيديولوجيات داخل المنظومة الشيوعية وردِّ الفعل عليها. انخرط في تيار البلشفية القومية التي اقتبست اسمَها من تناقض تاريخي بين البلشفية والقومية. انسجم دوغين في هذا صراحةً مع المفكر الألماني، إرنست نيكتش، المنظرِ الأول للتحالف بين السوفييت والألمان ضد "الغرب المنحلّ" وصاحبِ مشروع البلشفية الوطنية التي ناهضت هتلر لاحقاً، ما تسبّب بسجنه.
حمل دوغين حلم الإمبريالية الروسية عالقا داخل ما قبل ربع قرن. يقال إنه أثّر بعمق في الرئيس الروسي، بوتين، وأفكارِه، ربما
عقيدة الغرب المنحلّ هذه أراد دوغين مواجهتَها بما سمّاها الحركةَ الأوراسية العالمية. لكنّه لم يعتمد على مرجعياتِه الخاصة، بقدر ما استند إلى منجزِ خصمِه، حين اقتبس منه أدواته فقلَب استخدامها رأساً على عقب. لقد استفاد من عهد التنظير الأميركي لليبرالية المطروحة بديلاً نهائياً بعد انتصار الغرب أمام المعسكر الشيوعي. كان فرانسيس فوكوياما الحافزَ "الجدلي" لدوغين، شاغِلَه الرئيسَ منذ كتابه "أسس الجيوبولتيكا". بتتبع حركة المنتج الفكري للرجل، نجد أن مقاربته اعتمدت على عقيدة مناهضة الليبرالية باعتبارها انحلالاً، غير أنّها، في جانب آخر، عقيدةُ مفكرٍ كان في لحظة قهْر عند قاع المعادلة الدولية مهزومة بلاده هزيمة ساحقة. لهذا قلَب المعادلة أكثرَ من مرة في تسلسل حياته، وتنقَّل بين الأفكار من أجل واحدة، عمل عليها ستالين وأسلافُه، وهي إعلاء روسيا في المعادلة الحضارية الدولية.
غاب فوكوياما ومعه مجايلُه صموئيل هنتنغتون عن مسرح الأطروحات. تجاوزتهم التحولات الغربية العديدة. أما دوغين فداوم حاملا حلم الإمبريالية الروسية وعالقا داخل ما قبل ربع قرن. يقال إنه أثّر بعمق في الرئيس الروسي، بوتين، وأفكارِه، ربما. ربما أيضا أن بوتين وجد في المفكر الذي يصغره بأكثر من عشرة أعوام نزعةً مفيدة. الدكتاتور لا يؤمن عادةً بالآخرين، بقدر إيمانه فيما يقدّمونه لمعتقداته. وأيا يكن، الاثنان ينتميان إلى الخلفية التاريخية المهزومة المشتركة، ومحاولةِ النهوض اعتمادا على أسس قومية. يأتي هنا كتيّب المفكر الروسي الصادر أخيراً "الصحوة العظيمة ضد إعادة الضبط العظيمة". استخدم إعادة الضبط للإشارة إلى العولمة وما حولها من مفردات الانتشار السياسي الغربي. مقابلها الصحوة، حيث الصين والإسلام إلى جانب روسيا، مردّداً بذلك ما كتبه فوكوياما بطريقة معاكسة. في هذا المؤلَّف، كما في غيره، بدا واضحاً أنّ محاولةَ التغيير "القلب رأسا على عقب" هي السياق الذي اعتمده في عملية الانبعاث الحضاري المواجهة للغرب. في مقابل الأخير الذي يعيد ضبط نفسِه بعد أزمات وانقسامات عديدة، وجديدها أخيراً هزات فترة الرئيس الأميركي ترامب. عنوان أحد فصول الكتيّب "معركة الليبراليين الأخيرة" مثير. إنه يعود إلى أسر الماضي، إلى فوكوياما من جديد. الأخير أرّقه طويلاً، فحاول دوغين نقدَه عبر قلب أطروحاته. يكلَّل ذلك كلُّه في أثناء الحرب الأوكرانية.
بعد نحو أسبوع من الغزو الروسي، نشرت صحيفة فايننشال تايمز مقالاً لفرانسيس فوكوياما بعنوان "حرب بوتين على النظام الليبرالي" وصف فيه الوضع بأنّه نهاية مرحلة ما بعد الحرب الباردة أو نهايةُ نهايةِ التاريخ، في إشارة إلى كتابه قبل 30 عاماً "نهاية التاريخ والإنسان الأخير". ورغم أنّه ظلّ مخلصاً لعقيدته السياسية القديمة، أقرَّ بالمشكلات الداخلية للحضارة الغربية والهجمات التي تتعرّض لها داخلياً من اليمين واليسار. ومن دون أن يقصد فوكوياما، أو قد يكون قصَد، كان المقال طُعماً لإخراج دوغين مرة أخرى، كي يخوض المعركة القديمة. نشر بعد عشرة أيام مقالاً بعنوان "نهاية التاريخ التي لم تحدُث أبداً…"
قد يصح القول إنّ الأميركيين، ومعهم جلّ الغرب، يريدون رؤية روسيا تغوص في وحل يشبه وحل أفغانستان قبل أربعة عقود
في مطلع المقال، صقَلَ الرجل متبنياتِه بإعادتها إلى تسعينيات القرن الماضي "من وجهة نظر أيديولوجية، ما يزال العالم يعيش في الجدل الذي دار في التسعينيات بين فوكوياما وهنتنغتون. أيّاً كان النقد الذي قد يوجه إلى أطروحات كلا المؤلفين، فإنّ أهميتها لم تتضاءل". ضمناً هو يتحدّث عن نفسه، وعن مشروعه الذي سيفقد قيمته لو تضاءلت أهميةُ أطروحات خصميه. لهذا، نجده ضد ثورة الاتصالات والإنترنت والقفزات التكنولوجية في العقدين الأخيرين. الأمر مرتبط ببحثه الدؤوب عن عودة لحظةٍ لم تحسم فيها معركةُ ما بعد انهيار الشيوعية وفق الطريقة الروسية. لذا لا بد من أن تُعاد، وعملَ بوتين على اجترارها منذ غزوه شبه جزيرة القرم عام 2014.
قد يصح القول إنّ الأميركيين، ومعهم جلّ الغرب، يريدون رؤية روسيا تغوص في وحل يشبه وحل أفغانستان قبل أربعة عقود، إلّا أنّه ليس الصراع ذاته الذي كان حين غرِقَ الروسُ في وحل مقبرة الغزاة. على مدى أكثر من عقد، انشغلت الولايات المتحدة بمواجهة التطرّف الإسلامي. هو تطرّفٌ ساهمت هي في صناعة جانب منه، بل إيجادِ بعض تنظيماته عندما دعمت "المجاهدين" في أفغانستان. لم تكن روسيا طرفاً في الصراع إلّا بحدود ما جرى في الشيشان. ظلت بعيدةً نسبياً إلى غاية تدخل حلف الناتو في ليبيا وحرب سورية، ثم احتلال القرم وأيضاً الاتهامات بتدخلها إلكترونياً في انتخابات 2016 الأميركية. لا صلة للوضع بتاتاً بلحظة انهيار الشيوعية، هو نوع آخر مختلفٌ تماماً عما سمّاها فوكوياما نهاية التاريخ. ليست معركة الغرب مع روسيا بما تعنيه هذه الإمبراطورية الشاسعة الحدود من معناها القديم، هي الآن معركة نفوذ اقتصادي بدرجة رئيسة. أرادها بوتين أن تصبح أوسع، لكنّه يواجه الآن في أوكرانيا ظرفاً لا يبدو أنّ بمقدوره التغلبَ عليه عبر السلاح التقليدي. لم يتدخّل الغربُ في الحرب مباشرة، هو يدعم بالسلاح والمعلومات، ويبدو أنّ حدود الدعم هذه باتت كافيةً في ردع جيش روسيا العملاق من المضي بعيداً في عمق أراضي جارته.
لهذا، إنّ بناءَ دوغين بشأن المقاومة الحضارية فيه جانب صحيح بأن فوكوياما كان مستعجلاً جداً في ما طرح، لكنه هو الآخر، رغم مرور فترة طويلة كافية كي يراجع مقولاته عن الجغرافيا السياسية، بقي أسيراً لاستعجال خصمه، مهموماً بقلب الصورة مرّات ومرّات كي يثبت أن قناعته في التسعينيات بشأن الأوراسية صحيحة. يبدو الوضع معاكساً لما طرحه دوغين في "أسس الجيوبولتيكا". محيط روسيا الأوروبي يرفض بوتين وإمبراطوريته بحزم. حتى دولٌ صغيرة مثل أستونيا وليتوانيا غاضبةٌ من سياسة التمدّد. السويد وفنلندا كسرتا امتناعهما الحيادي عن الانضمام لحلف الناتو وطلبتا عضوية الحلف. أكثر من ذلك، إن مقولة وجود روس في أوكرانيا راغبين بالعودة إلى حضن الكرملين تهشّمت في أن الغزو يعاني من عدم وجود أنصار يهللون مبلطين الأرضَ بالزهور لـ"المحررين".
كانت أمام روسيا فرصةٌ كبيرة في أن تقيم للاتحاد الأوروبي وزنا في معادلة تقارب، وليس صناعة حرب
الأمم شرقي أوروبا المفترض أن تشملها الجغرافيا السياسية لا تنسجم مع روسيا، وترفضها، إما لذاكرة التاريخ المريرة مع السوفييت، أو لأن الغرب قدّم لتلك الأمم ما يُغري كي تدافع عن انضوائها تحت عنوانه. أما آسيا الوسطى فهناك أكثر من مؤشّر في أوزبكستان وكازاخستان وسواهما على تململ من الدور الروسي. واقتحام قوات موسكو كازاخستان لمواجهة أعمال العنف الناجمة عن التظاهرات، أخيرا، تشير إلى أن المحيط الجغرافي الآسيوي الأقرب إلى روح روسيا "الأوراسية" غير محسوم الولاء.
كانت أمام روسيا فرصةٌ كبيرة في أن تقيم للاتحاد الأوروبي وزنا في معادلة تقارب، وليس صناعة حرب. بدت علاقات موسكو ببرلين وباريس جيّدة قبل شهور، والغاز ليس القضية الوحيدة الرابطة بين الوجودين الجغرافيين المتجاورين، خصوصا بعد أن حاول الرئيس الأميركي السابق، ترامب، التنكيل بالأوروبيين، خصوصا مع الاتهامات الموجهة أكثر من مرة لواشنطن بأنها لا تريد اتحادا أوروبيا مكتفيا. اختيار وهْمِ التوسع اختبره كثيرون، واصطدموا بالفزع، سواء الإمبراطورية النمساوية المجرية أو طموحات هتلر النازية أو أحلام المعسكر الأحمر الذي سقط وسط فرحة شعوب شرقي أوروبا. وهكذا آخرون أضأل في أماكن أخرى من العالم.
بالطبع، يسهل ملاحظة أن العالم يغادر هيمنة القطب الواحد، لكن هذا ليس بفعل الصراع بين عالم ليبرالي وآخر غيره كما ظن سابقا فوكوياما أو يظن دوغين، إنما بفعل عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية عديدة. وإذا كانت الجغرافيا تلعب دورها، فهي بالتأكيد ليست الجغرافيا السياسية المتمددة روسياً في عمق حدودها الغربية. كشفت الحرب أن موسكو من جديد تحاول فرض الواقع بالقوة، وليس لأنه موجود. فعلت ذلك مع ثورتها البلشفية عندما أرادت بالقوة أن تعلن "الحتمية التاريخية" في بيئةٍ غير مناسبة، وها هي تفعلها مجدّداً بالقوة لتبرهن على أنّ شرقي أوروبا هو امتداد الإمبريالية الأوراسية.