عندما يغدو الأمل هناك "بعيدًا عن الديار"
يمضي الإنسان ردحًا من عمره يتعلّم من أجل أن يتأهل للعمل، في مرحلة تأسيسية تختلف بين عمل وآخر، فغاية الحياة "العمل"، ليس بسبب الشغف به، حتى لو وقع هذا الشغف، إنما من أجل أن يعيش، ذلك لأنّ عليه أن يعمل لتلبية حاجاته البيولوجية وتوفير مصادر الحماية له، والتي تختلف من وقتٍ إلى آخر، وما أكثر تنوّعها حاليا. وفي الوقت نفسه، لا يمكن إغفال دور العمل في تطوير ملكات الإنسان وقدرته الإبداعية، وما لها من انعكاساتٍ على قيم المجتمع والعلاقات الإنسانية، فهو قيمة بحدّ ذاته، وقيمة كبرى وأساسية لدى الإنسان، ويعدّ إحدى المشكلات أو المفاهيم الفلسفية التي شغلت الفلاسفة منذ أفلاطون، الذي عدّ العمل ركيزة أساسية في الحياة داخل الجماعة من أجل أن يحقّق الإنسان حاجاته. ولسنا بصدد مناقشة مشكلة العمل فلسفيًّا، إنما القصد من هذا التذكير التركيز على النقطة المركزية، إن العمل غاية بحد ذاته، وهو، بوصفه مفهوما وفاعلية بشرية، ساهم في ظهور ما تسمّى الأنظمة الاقتصادية التي يتناولها علم الاقتصاد السياسي بكثير من الاهتمام والدراسة.
منذ الحملة الدعائية لإعادة انتخاب الرئيس بشّار الأسد، وكان عنوانها الرئيس "الأمل بالعمل"، صارت هذه الجملة مثل قول مأثور، أو حكمة تربوية، أو شعارٍ يُردّده الناس من دون أدنى تفكّر، ليس في مدلوله اللغوي، بل في ترجمته على أرض الواقع، كذلك صار الشعار، أو ما يحمل من قيمةٍ معرفيةٍ يسعى المسؤولون إلى تكريسها في وعي الناس، من رأس النظام وحتى أصغر مسؤول، وافرًا بغزارةٍ في الوقت الراهن، حتى يمكن القول إن هذه الغزارة في ترداده بطريقةٍ أو بأخرى، بصياغةٍ أو بأخرى، تتناسب طردًا مع تردّي الأحوال المعيشية للمجتمع السوري، الذي باتت غالبيته القصوى تحت خطّ الفقر، وهذا حقيقةٌ بكل معنى الكلمة، وليس مجازًا "يوهن تردُاده عزيمة الأمة".
منذ تراجع وتيرة العمليات العسكرية في مناطق سورية عديدة في العام 2018، لم تعد هناك حاجة إلى العدد الكبير الذي كان مطلوبًا في بداية الحرب من المجنّدين لصالحها، وهم شباب التحقوا بالفصائل التي شكلتها كل الأطراف المتنازعة لخدمة المعارك والحروب الميدانية، ما يعني حمل السلاح والانخراط في العمليات القتالية، كعمل متوفّر في زمن "القلّة"، مغلّف بكثير من الأوهام الوطنية والإيديولوجية والعقائدية، استمرّت غالبية هذه الفصائل في عملها عقدا، وما زال بعضها، لأن الحرب لم تنتهِ، لكن أولئك المجنّدين الذين أمضوا ثلث عمرهم المنتج لا يعرفون غير حمل السلاح، وكان السلاح أداة العمل الرئيسية بالنسبة إليهم، فجأة رأوا أنفسَهم بلا عمل، بلا خبراتٍ أخرى، بلا تأهيل أو تكوين معرفي أو عملي، في وقتٍ تغيرت فيه الأمور والأوضاع، يعيشون في مجتمع منهار ودولة فاشلة اقتصادها عاجز عن وقف تدهوره وتراجعه، فكيف بنهوضه؟ لا وظائف، لا فرص عمل، لا إمكانات تؤهّل لابتكار أعمال مهما كانت صغيرة إنما يمكن أن تؤمن الحدد الأدنى من العيش، ليس هذا حال أولئك فقط، بل حال أفراد كثيرين في عمر الشباب، يواجهون الحياة بلا أي حلم أو طموح، حتى لو كانوا مؤهلين علميًّا ومهنيًّا، فحتى لو توفّرت الإرادة والوعي، بأنهما يشكّلان عنصرين أساسيين لتحقيق مفهوم العمل، فهذا لا يكفي في غياب الشروط الأخرى.
لا يمكن عزل الأمل عن مشكلات الإنسان الأخرى، أو مشكلات المجتمع والدولة
في القراءات المضلّلة للشعارات والأهداف، يمكن مقابلة شعار "الأمل بالعمل"، بشعار "الأمل بعيدًا عن الديار" الذي اختارته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لهذا العام، في مناسبة يوم اللاجئ العالمي، إذ تصرّح إنها تسلط الضوء على ضرورة إيجاد حلول لمشكلات اللاجئين ومدى اندماجهم وأهميته، معتبرة أنها الطريقة الأكثر جدوى وفعالية لتمكينهم في بناء حياتهم من جديد في الدول المضيفة.
يبدو، فيما لو قرأنا شعار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، قراءة أخرى، كما قراءة أي "نصّ أدبي" أو جملة أدبية، أن الشعارين متلازمان، بل يرتبط بعضهما ببعض، بالنظر إلى الظروف التي يجد فيها الشباب أنفسهم في بلدانهم الأصلية، حيث لا يتوفّر أيٌّ من عناصر العمل، أقلّه بالنسبة إلى نطاق العمل بوصفه نشاطا بشريا، أو أدوات العمل، أو حجم الاستهداف الذي يعطي مردودًا للعمل، إذا نحّينا القدرة والحافز والتأهيل، فالعمل لا يمكن عزله عن مشكلات الإنسان الأخرى، أو مشكلات المجتمع والدولة.
ما يلفت النظر ويستحق الاهتمام به ودراسته بوصفه ظاهرة على درجة كبيرة من الأهمية والخطر، اليأس الجماعي التي تعاني منه مجتمعات البلدان التي أنهكتها الحروب، بعدما كانت قد أوصلتها الأنظمة الفاشلة، بأبسط تعبير وأخفّ توصيف، بينما هي أنظمة قمعية استبدادية شمولية، تدرك في العمق مدى لا شرعيتها أمام شعوبها، إلى مستوياتٍ من الشلل الفكري والعملي، وموت الشعور بالانتماء عند شريحةٍ كبيرة من شعوبها، بعدما كرّست ارتباط مفهوم الوطنية بالنظام الحاكم الذي انتفضت ضد ظلمه وفساده، فكانت نتائجه الباكرة ما وصلت إليه من حروبٍ بينيةٍ وانقسامات وولاءات وتدخلاتٍ أجنبية وتمادٍ على السيادة الوطنية، وتراجع الحياة بأركانها المختلفة إلى ما قبل الدولة بمفهومها الحالي، بل حتى بأشكالها قبل الحديثة.
منذ الحملة الدعائية لإعادة انتخاب الرئيس بشّار الأسد، وكان عنوانها الرئيس "الأمل بالعمل"، صارت هذه الجملة مثل قول مأثور، أو حكمة تربوية
عندما يكون "الأمل بالعمل" شعارًا منفصلًا عن الواقع، والحياة لا تعدو أن تكون غير مستنقعٍ لا يمكن أن تنمو فيه أو على ضفافه غير الطحالب والأشنيات، على شكل تجّار حروب وسماسرة ينتعشون تحت مظلة الأنظمة السياسية، التي لا تمتلك من الأهداف والخطط والاستراتيجيات لأجل انتشال شعوبها من هذا الاستنقاع إلّا الأوهام، لا يبقى للفرد أمام غول الفقر والجوع وانعدام الخدمات التي تعدّ من البديهيات التي تقدمها وتصونها الحكومات لشعوبها حقّا وليس منحة منها، إلّا التفكير في الهجرة حتى لو كان احتمال الموت هو الغالب في رحلة السعي لتحقيق هذا الحلم أو الهدف، هذا ما نراه سائدًا، وما نرى نتائجه الفاجعة كل يوم، سواء بغرق مراكب الهجرة، أو بموت متعدّد الأشكال بين الجماعات الهاربة عبر الحدود البرّية، تسلّم مصيرها لتجار البشر، وتواجه وحوش الغابات والمناخ وبعض المتطرّفين المتعصّبين من أفراد عاديين أو حرّاس حدود أو شرطة، ممن يعترضون طريقهم في رحلاتهم المقامرة هذه.
لماذا "الأمل بعيدًا عن الديار"، وليس "الأمل بالعمل"؟ والدليل هذا الكمّ من المقامرة، والحجم من طاقة التحدّي والإصرار، والقدرة على تكرار التجربة مئات وآلاف المرّات من دون أن تردع المخاطر أولئك الباقين في أوطانهم المنهارة؟ إنه ببساطة قانون الاحتمال، فاحتمال أن يكون الأمل بالعمل شعارًا واعدًا وممكن التحقّق ضعيف، في واقع مصيره الحتمي، طالما الظروف لم تتغيّر، هو الموت البطيء، موت الحافز، موت الحلم، موت الطموح، موت القدرة على التفكير، موت النشاط الإنساني، موت الجسد بالتدريج تحت ضغط الحرمان والإحباط واليأس، وزيادة على كل هذا، الخوف من الانتقام فيما لو خرج الفرد من رحم آلامه وحرمانه ومعاناته وقال: لا!
الأمل بعيدًا عن الديار، كما يُفهم من إنسان تُسرَق منه حياته بالتدريج وبطرائق شتى، وهو لا يملك من مقوّمات حمايتها أو الدفاع عنها في دياره شيئًا، سوف يبقى حلم كل العاطلين من العمل والأمل في ديارهم.