عندما وصموا النساء بالثرثرة

28 ابريل 2023

(صفوان داحول)

+ الخط -

ليست الكتب سوى مجموعة من الكلمات التي رُتّبت لتقدّم معنى كاملا إلى القارئ. ولكن قبل أن تَضُمّ الكتب الكلمات، كانت الشّفاه المصدر الوحيد لها. وقبل أن تُكتب الكتب بهدف إيصال معانٍ وطرق مواضيع وقيم، كانت الأحاديث والأناشيد والأغاني والمناجاة وسيلة مخاطبة الإله، أو الآلهة المتعدّدة عند القدامى، وأذهان الآخرين وقلوبهم. وقبل نداء الله إلى النبي يحيى: "يا يحيى خذ الكتاب بقوّة"، كانت الخطابة وسيلة الأخذ بقوة المعنى ودقّة العبارة. ويحيى وبقية الأنبياء أنفسهم قامت دعواتهم على الخطاب المباشر إلى الناس.

شفهيّاً، اعتمدت قوّة حكايات شهرزاد على التحكّم في سيل الكلام، وتقطيعهِ حسب خطّتها العبقرية لحماية حياتها، فتسيل الكلمات من فمها كحبّات العقد المنفلت. ثم تقف عند جوهر الحِبكة، لتُبقي شهريار متشوّقاً لبقية الحكاية. لا تتماشى هذه الحرفيّة العالية في استعمال الكلام مع ما شاع عن عجز المرأة عن التحكّم في زمام الكلام، فتفيض ثرثرة في مواقف لا تقبل سوى ما قلّ ودلّ. وما تروّجه الثقافات الشّعبية التي تجعل الكلام "حاكماً" بأمره، على لسانِ المرأة، بلا هدف. لكن كل ما يصل إلينا من تراث يثبت أن المرأة كانت تجيد لعبة الكلمات، وتستعملها لصالحها. بل وتقرّ غالبية المجتمعات بقدرتها هذه، رغم أنها تصمها بالثرثرة.

فـ"فكرة الثرثرة بالمؤنث من أقدم الأفكار وأكثرها ديمومة، فالأدب يتحدّث عن النساء الثرثارات، لدى الحضارات جميعها"، حسب الفرنسية فيرينا آبيشير في كتابها "النساء واللغة". وظل الاعتقاد أنّ النساء هنّ كائنات ثرثارة حتى القرن الخامس عشر. تحت تبرير أنّ الشيطان يدفع النساء إلى الثرثرة. وتشرح فيرينا تفوّق النساء لغوياً، الذي وُصم بالثرثرة، بأن" المسؤول اللّغوي عند النساء، هو نصفا الدماغ؛ عكس الرجل الذي يستعمل نصف دماغه كمسؤول لغوي. ولهذا تقول بحوثٌ علميةٌ تشريحية إن المرأة تتفوّق على الرجل بنسبة ذكائها. وهذا التفوّق المبدئي يجعل من المخزون اللغوي عندها أكثر قدرة على التدفّق والتأويل، بما يشبه التّقنية المبرمجة في دماغها. ولم يكن مثل هذا الأمر وليد لغة حاضرة ومتداولة، بقدر ما هو ترسبات لغوية قديمة".

في الثقافة الأمازيغية، المرأة هي الأديبة، فهي من تقول الشّعر، ومن تغنّي ومن تروي الحكايات، مع سيادة الثقافة الشفهية. ويكتفي الرجل في الجهة الشمالية من المغرب، بالاستماع إلى النساء، فعدا عن الحكايات والأخبار، امتلكت النساء القدرة على التعبير أكثر وأجرأ من ذلك. فتغني الفتيات للشباب الذين يعرفون أنفسهم، من الصفات التي يوردنها، حتى وإن لم يصرّحن بأسمائهم. ويتقدّم الشاب لخِطبة الفتاة، بعد أن كانت العلاقة تقتصر على النظر من بعيد، وبضعِ ابتسامات، وكلمات غامضة وسط الضّجيج. كانت الكلمة سلاح المرأة في الحروب، فالنساء كنّ يحملن الأخبار للمقاومين المختبئين في الكهوف، عن حجم جنود المستعمر، والرّقعة الجغرافية التي يوجد فيها، بالغناء في الحقول، بحيث لا يخطر للجنود الإسبان أنّهن رسلٌ وجنود كشّافة.

حتى الذاكرة تصم الأمهات ولو بحسن نية، بالثرثرة، في خدعة نوستالجية. رغم أن الحقيقة أنهن كن يخلقن عالماً كاملاً، بكلماتهن الخاصة، ويصلن إلى تحليل دقيق للقصة، وطرح كل وجوهها. ثم الانتقال إلى التنبؤ بالحركة المقبلة للأشخاص موضوع الحديث. وهو ما جاءت به السوشيال ميديا، لتقوم بما كانت الشبكة التواصلية للنساء تقوم به. يمكن أن نقول إذن إن وصمة "الثرثرة" ليست سوى مسمّى للفضفضة ولجلسة عصف ذهني، تقوم مقام ما يدفع المعاصرون مبالغ محترمة لدى أخصائي نفسي، من أجله.

النساء أقدر على استغلال اللغة في التعبير، ونسج علاقات اجتماعية تعتمد أساساً على اللغة كوسيلة تواصل البشر الأولى. أما الثرثرة التي هي كلام كثيرٌ بلا هدف، فهي صفة إنسانية يتقاسمها الرّجال والنساء، على حدّ سواء. انظر إلى قعدات المقاهي في المنطقة العربية، التي تعرف أكبر تمركز للثرثرة على الإطلاق. لكنهم وصموا النساء بالثرثرة، لأنّهن لم يملكن القدرة على تحويل كلامهن إلى فعل، فالمجتمع حصر الفعل عند الرجال. لذا ظل كلام النساء صدى طبل فارغ، لا يُؤخذ به. ومن هنا نشأت تعابير مثل "كلمة رجال"، فكلمة النساء بلا ثقل لأنهن يعجزن عن التصرّف وفقها.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج