عندما لم يُفاجئنا هابرماس
تراجَع الفيلسوف (وعالم الاجتماع) الألماني، يورغان هابرماس، عن قبوله جائزة الشيخ زايد للكتاب، شخصيّة العام 2021، بعد انتقادٍ له، بلغ حدّ التقريع، في مقالٍ لمعلّقٍ في مجلة دير شبيغل، ساءَله مستنكرا أنه يقبل جائزةً من دولةٍ "تنعدم فيها الحياة الديمقراطية". بدا، حينذاك، أن الفيلسوف الشهير استسلَم، وأخافتْه "سلطة" الصحافة في بلدِه الديمقراطي. أما عندما شارك، قبل أيام، في التوقيع، مع ثلاثةِ أساتذةٍ في جامعة فرانكفورت (أحدُهم مختصّ بالقانون) على "رسالةٍ" تساند إسرائيل في حربها الراهنة على قطاع غزّة، لم ينتقدْه أحدٌ في الصحافة الألمانية، أو يلومه، أو يخطّئه، على فعلِه هذا، فالميديا الألمانية شريكةٌ في مهرجان الكلام إيّاه عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وعن استفظاع الذي قامت به حركة حماس، والتي لا تُنعت بغير الإرهاب، يوم 7 أكتوبر ضد "اليهود". لم نكن لنكترث برسالةٍ كهذه، موجّهة أساسا إلى الجمهور الألماني المحلّي، لولا إمضاء صاحب نظرية "خطاب السلوك الأخلاقي" عليها، وإنْ نعرف أن الفيلسوف التسعيني (1929) لم يُنقل عنه، في أيّ يوم، أيّ عبارة تعاطفٍ مع الفلسطينيين، وأنه متحمّس، وإنْ بقدرٍ معيّن، لدولة إسرائيل التي دعا، في زيارةٍ لها، في محاضرةٍ في الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات في القدس، في العام 2012، الأوروبيين اليهود إلى الذهاب إلى إسرائيل، كي تصبح هذه "ضرورة تاريخية".
وعندما تقرأ في النصّ (الرسالة) إن "المذبحة التي ارتكبتها حماس بهدفٍ معلن، تدمير الحياة اليهودية بشكل عام، دفعت إسرائيل إلى الانتقام"، فإنك تستعيد إلى خاطرك الوطأة الثقيلة التي تُحرزها ما شاعت تسميتُها "المسألة اليهودية" على مدارك "أهم فيلسوفٍ في ألمانيا منذ عقود" (بتعبير يوشكا فيشر)، فالرجل عندما يفترض الغرض المشار إليه في التي اعتبرها "مذبحةً" اقترفتها "حماس" لا يصير فيلسوفا، لأن المُشتغل بالفلسفة متمهّلٌ متأنٍّ يُعمل العقل، ويمحّص ويفكّر، لئلا يكون ضحية مقولاتٍ ذائعة، متعجّلة. والمؤكّد أن الذي يذهب هذا المذهب في الانتصار لليهود لا يقع في ترديد قولةٍ كهذه، أو أقلّه ينتظر جلاء حقيقة الواقعة. ولئن ليس منسيّا أن يورغان هابرماس لم يلتفت يوما إلى ما ظلّت تقترفها إسرائيل من فظاعات وانتهاكات وجرائم حرب واعتداءات، فإن حرصَه (مع شركائه الثلاثة) على تظهير "التضامن المبرّر مع إسرائيل ويهود ألمانيا"، بعد تلك "المذبحة"، وعلى توصيف الردّ الإسرائيلي عليها بأنه "مبرّرٌ من حيث المبدأ"، يعني أنه يتنازل عن صفة المحقّق المدقق، عندما لا يحاول رؤية هذا "الردّ المبرََّر" كيف أزهق أرواح آلافٍ من الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا صلة لهم بـ"المذبحة".
ربما يبدو التمادي الظاهر في هذا الحماس لإسرائيل، في الموقف الذي أعلنه هابرماس، مفاجئا بعض الشيء، فهو أعلى بكثير، وبشكل حادّ، مما أظهرها الفيلسوف الشهير سابقا من مواقف وعواطف ساندت دولة الاحتلال، وتعامت عن الضحايا الفلسطينيين، إلا أنه ليس مفاجئا تماما، بالنظر إلى اصطفافٍ تقليديٍّ حافظ عليه، وإلى "خوفٍ" مقيمٍ فيه، بوصفه ألمانيّا ربما، من أن يُرمى بأي اتهام يضعُه في خانة من تخاذَلَ عن "نصرة" اليهود، وقد تعرّضوا إلى ما يشبه "الهولوكست" و"11 سبتمبر"، ما أوجب عليهم أن يخوضوا "حرب الاستقلال الثانية"، على ما ردّدت (وما تزال) الميديا الإسرائيلية، ولحقت بها وسائط إعلام ألمانية تطرّفت في هذا، والدولة الألمانية نفسها التي تفوّقت في انحيازها الكبير على الولايات المتحدة (أقرّ البرلمان قانونا يعتبر أمن إسرائيل شأنا ألمانيّا)، ما جعلنا نتذكّر أن بعضها زاود كثيرا في غضون كأس العالم في قطر (2022)، عندما بلغ الأمرُ بها اعتبار رفع الفريق المغربي العلم الفلسطيني "معاداة للساميّة".
ابتهج الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، بانتصار إسرائيل في حرب 1967، وهو الذي ارتدى ثوبا تقدّميا في غير شأنٍ في بلادِه، كما مواطنُه سارتر الذي كشفت رسائلُ منه إنه كان مذعورا من أن تُنهي الجيوشُ العربية في تلك الحرب إسرائيل. وليست قصيرةً القائمة التي تضمّ أدمغةً أوروبيةً رأت في إسرائيل من منجزات الحضارة الأوروبية. ويتسّقط كتّابٌ عربٌ مواقف هابرماس في غير قضيةٍ وشأن (أميركا، العراق، الهجرة، القوميات، ...)، وهذا طبيعيٌّ، بالنظر إلى وزنِه الفكري عالميا، غير أن تعريفَه بأن النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين (وليس اليهود طبعا) لم يبدأ في 7 أكتوبر مضيعةٌ للوقت.