عندما لم ينتبه بيدرسون إلى لون بردى
لم يتكدّر مزاج رأس النظام السوري منذ حضر قمة جدّة في الشهر الماضي (مايو/ أيار)، إذ لا يزال محتفظاً بنوع من البهجة الطارئة التي تخصُّ انتصاراً لا يدركه أحدٌ سواه، كما نجده متخفّياً وراء وصفته المحببة من اللامبالاة والفصام عن الواقع، فتارةً يستقبل الرئيس اللبناني المنتهية ولايته، ميشال عون، مطلع شهر يونيو/ حزيران الحالي، وبعد أيام يوقع، ببراعة وخفّة يد، على قمصان لاعبي نادي الفتوّة لكرة القدم، وعلى قمصان الطاقم الإداري للنادي الشهير عقب فوزه ببطولة الدوري السوري لكرة القدم، وتارةً أخرى يُجيد إتقان فنون ازدراء الحلّ السياسي لأزمة الحكم في بلاده، وقد لا يجد فيها أيّاً من مكوّنات الأزمة من الأساس، وربما لم يكترث لأمر هيئة التفاوض السورية حين اجتمعت في جنيف المدينة السويسريّة البعيدة كلّياً عن معاناة السوريين، بعد عطلة طويلة صامت خلالها الهيئة عن اللقاءات الدورية ثلاث سنوات.
ولكن ما يسكن مذاق الحياة العامة في الداخل السوري هو مزاج الطهاة الدوليين الكبار، وما يعدّونه من وجباتٍ بطيئة الهضم والامتصاص على موقد الملف السوري الخامد نسبيّاً، بحيث لا يقول وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، شيئاً عن "الخطوة السورية" المنتظرة بعد القمّة العربية في جدّة، تلك الخطوة التي يريد أن يراها العرب المهندسون الفعليّون لاتفاق عمّان في الأول من مايو/ أيار، والذي بات يُعرف باسم اتفاق "خطوة مقابل خطوة"، ويبدو من العسير على النظام أن ينجز من ذاك الاتفاق نصف خطوة، أو ربعاً منها على الأقل. حتى إنّ هيئة التفاوض السورية لم تجازف بالمطالبة، في بيان اجتماعها الختامي، برحيل النظام السوري ورأسه، أو بمحاسبتهما، وإنما تماهت مع ترديد مطالب المبادرة العربية، وكأنها كانت تُعيد خياطة القماش نفسه بالمقاس نفسه، أو كأنها كانت تُعيننا على تذكّر ما جاء في تلك المبادرة من ضرورة تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وتحقيق السلم الأهلي، ومحاربة الإرهاب، وانسحاب المليشيات والقوات الأجنبية من الأراضي السورية، والحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً، والتزام سورية بالحفاظ على الأمن القومي العربي والإقليمي والدولي.
لم يعد السوريون الموالون مقيّدين بإجراء حساباتٍ عاطفيةٍ لتخمين مقدار ولائهم للنظام السياسي القائم في بلادهم، باتوا، مع مرور الوقت، أكثر براغماتيّة من النظام نفسه
وما اجتماع هيئة التفاوض السورية ذاك سوى دفعة ثانية لزيادة رصيد إحراج بشّار الأسد ونظامه، وإحكام تطويقهما بصورة دبلوماسية آمنة، سبقتها الدفعة الأولى المكلفة للغاية، والتي تسلّلت إلينا تحت مسمّيات متعدّدة، مثل التقارب العربي مع النظام السوري، أو التطبيع العربي مع نظام دمشق، أو عودة سورية إلى الحضن العربي. وبهذا يكتمل، ومن الناحية النظرية إن جاز التعبير، شكلُ الإطار النظري والموضوعي للانتقال الجادّ نحو بحث حلّ سياسيٍّ للأزمة السورية، ويكون العرب بهذا قد قاموا بخطوتين متتاليتين على الأقل باتجاه بوصلة الحلّ، من دون أن يفكّر نظام دمشق ورأسه بالتقدّم، ولو خطوة واحدة، وإن بمقاس صغير من باب إثبات حسن النيّة، والأرجح أنه غير قادر على فعلها مهما اكتست بساطةً أو تواضعاً، فهو ذو بنية ذهنية وميكانيكية تمتدح احتكاره السلطة، وتمنعه من تشاركها مع أيّ مكوّناتٍ من خارجه، كما تجعله عاجزاً عن التفكير بمنطق الدولة الوطنية، لا الدولة البوليسية التي كرّسها نصف قرن لخدمته ورعاية بقائه بصورته القائمة حالياً.
ثم يبدو أن تجهيز الفريق الآخر، الذي سيجلس أمام فريق النظام في مباحثات الحلّ السياسي (إن تمّت بالفعل) قد تحقق بالسرعة المطلوبة لبلوغ الإحراج المطلوب، وإثبات أن النظام السوري، بالرغم من كل ما قُدّم إليه من تسهيلات، يرفض الإصغاء سوى لصوته القبيح، المليء بالتهويمات والسرديات غير المنصفة للواقع والتاريخ معاً، ولعل هيئة التفاوض السورية قد بذلت في سبيل إرضاء المبادرة العربية جهداً مقبولاً، سواء في إعادة منصّة موسكو، والتراجع عن قرار فصل مهند دليقان أحد الأربعة ممثليها داخل الهيئة، أو من خلال حلّ مشكلة حضور قائمة المستقلين، واعتماد أسماء القائمة القديمة، أي القائمة ما قبل تدخل الرياض عام 2019 حين أرادت تحديد أسماء المستقلّين، وما نجم عنه من قطيعة بين الهيئة والرياض، ودخول الهيئة في ركود سياسي أشبه بالكوما وقد لازمها ثلاث سنوات متتالية. وهيئة التفاوض السورية تكوّنت أصلاً من ست كتل تأسيسية، لكل منها حجم تمثيليّ داخل الهيئة، فلكل من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والمستقلين، ثمانية ممثلين، ولهيئة التنسيق الوطنية خمسة، وللفصائل المسلحة سبعة، أما منصّتا القاهرة وموسكو فلكل منهما أربعة ممثلين داخل الهيئة.
خلال اجتماع هيئة التفاوض السورية أخيرا، لم يكن غير بيدرسون مكترثاً بتبدّل لون مياه نهر بردى إلى اللون الأحمر
وفي مطافٍ آخر، لم يعد السوريون الموالون مقيّدين بإجراء حساباتٍ عاطفيةٍ لتخمين مقدار ولائهم للنظام السياسي القائم في بلادهم، باتوا، مع مرور الوقت، أكثر براغماتيّة من النظام نفسه، ما يعنيهم فقط جنيُّ المكاسب التي يعتقدون بأنها مُتاحة القطاف بعد سرديّة التطبيع العربي مع النظام الحاكم لسورية، أو سرديّة التقارب العربي المُلغز مع بشّار الأسد، لكنهم بالفعل لا يجدون ما يمكن التقاطه على أنه مكاسب، بل لا تزال حياتهم على حالها، متصالحة مع فقه البؤس وتعليماته التنفيذية، كما لم يخبرهم إعلام نظامهم في أثناء احتفائه "بالانتصار" على الآخرين بأنهم ينتظرون سراباً مقفلاً من الجهات الأربع، وعليهم أن يجيدوا انتظاره بوقاحةٍ وتمعّن، فهذا نظامٌ معدٌّ منذ نشأته الأولى لتخريب البلاد وسكانها، وقد أتمّ هذه المهمة على أكمل وجه، وليس بمقدوره على الإطلاق إتقان مهمةٍ سواها، ليس مُصمّماً لأغراض أخرى غير الهدم الباذخ، ومن ينتظر منه أيَّ دور بنّاء هو واهمٌ كبير بلا منازع. إذ تحوّل النظام السوري خلال العقد الماضي من نظام بصورة الطغمة الحاكمة إلى نظام بصورة العصابة الحاكمة، التي تُدار بكفاءةٍ عاليةٍ من أعلى إلى أسفل، ومن مصلحتها إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه أطول مدّة ممكنة، وهذا يفسّر جزئياً سلوك النظام المستهتر بالحلّ السياسي، ومحاولاته الحثيثة للمماطلة به وباستحقاقاته، فما يعنيه هنا استمراره في تحصيل المكاسب الريعيّة التي تعاظمت قيمتها عاماً بعد عام، تلك السيولة من العملة الورقية الرخيصة التي برع في سحبها من جيوب الجميع وبلا تفرقة، في الداخل وفي الخارج أيضاً قدر المستطاع.
خلال اجتماع هيئة التفاوض السورية أخيرا، لم يكن مبعوث الأمم المتحدة الخاصّ إلى سورية، غير بيدرسون، مكترثاً بتبدّل لون مياه نهر بردى الدمشقي إلى اللون الأحمر. بدا الخبر كما لو أنه قطع مسافة شاقة وطويلة من دون أن يرحّب به أحد، مسافة لا يمكن قياسها أو ترجمتها على أي حال، سوى إلى اللون الأحمر، كان على النهر أن يذكّر الجميع بدماء من قتل من السوريين، كان على النهر أن يغيّر لونَه، مثلما فعل الجميع.