حين نسيَ النبي إشعياء ذكر بشار الأسد!
يصعبُ انتشال سورية ممّا هي فيه، من أوصالٍ وأشلاء متعدّدة تسكنها احتلالاتٌ أجنبية تفيضُ منها أربعُ لغاتٍ مختلفة، ومن خزائنَ عامرة بالخراب والمهانة والمذلّة تجعل بشار الأسد عاجزاً عن دحضِ وجودها، أو إنكارها، وهو المتواري عن الأنظار منذ مدّة تسبق قصف الطيران الإسرائيليّ لأهداف عسكرية في مدينته، مدينةِ اللاذقية، وذلك فجر يوم الخميس 17 أكتوبر/ تشرين الأول، وقبل هذا بيومين قصفت إسرائيل أيضاً هدفاً لها في أحد أبنية المزّة 14 (مجموعة أبنية يتألف كل منها من 14 طابقاً وسط العاصمة دمشق)، كلُّ هذا وزعيم النظام السوري لا يشجب، ولا يندد، ولا يستنكر، ولا يتحدث عن الردّ في الزمان والمكان المناسبين، فلسانهُ مسبيٌّ، ولا يريد استرداده، متجاهلاً التنكيلَ الإسرائيلي بمواقفه الوطنية (!) والقوميّة (!) مُحصياً ضحايا الاستهدافات الإسرائيلية، وهم باتوا كُثرا من قادة محور المقاومة والممانعة، وكان جديدهم أخيراً، يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والعقل المُدبّر لعملية طوفان الأقصى قبل عام.
ثمّة إذاً ما استأصل وجود بشار الأسد من هذا المشهد المُراوغ ومترامي الأطراف، حيث تمارس إسرائيل فيه فعلَ التوسّع بلا لجامٍ يمنعها عن التمادي به، بحجّة ضمانِ أمن حدودها، حتى إنها توغّلت، فبلغت بلدة كودنة في ريف القنيطرة الغربي، ونصبت سياجاً شائكاً هناك، بطول نصف كيلو متر، وعرض كيلو متر، بعد هذا توغّلت بستّ دبابات ميركافا داخل الأراضي السورية في منطقة الجولان، وحفرت خنادقَ هناك، وأنشأت نقاطَ مراقبة، وأسدُ دمشق لا يستنفر، باقٍ في غيبوبته، راجياً ألا يوقظه منها أحدٌ، حتى وإن وصل الجيش الإسرائيلي إلى مشارف العاصمة دمشق، يريد رأس إيران هناك، فإن بشّار الأسد راضٍ بمنامته تلك، ومستقرٌّ بها، فذاك عنوان إقامته الدائم، وهو يُخطئ إنْ اعتقد بأنّ وزنه السياسي سيزداد حالَ بقائه متفرّجاً على مشاجرة المصالح الإقليمية والدولية على الأراضي السورية وفوقها، بل بات وزنه السياسي صفراً بعدما صار أداةً يعبث بها الجميع، ويستخدمونها استخداماتٍ محددة، ويضعون لها تاريخ صلاحيّةٍ وانتهاء. فبشّار الأسد يوحي أنه لا يريد مزيداً من النفوذ الإيراني في سورية، لكنه لا يقوى على المجاهرة بذلك، ثمّ تنسحب القوات الروسيّة من نقاط مراقبة كانت تشغلها قُرب خطوط التماس مع الجولان السوري المحتل خلال الربع الأول من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، ولا يقوى "أسد العروبة!" على معاتبة "حليفه" الروسي، وسؤاله عن سبب انسحابه التكتيكي ذاك؟ وهل يعني هذا انكفاءَ "الحليف" عن دعم "حليفه" إن قررت إسرائيل صفع رأس النظام السوري على نحوٍ أشدّ إيلاماً من ذي قبل!
من المرجّح أن رئيس النظام السوري يدرك أنّ تفاهته السياسية هي ثمن بقائه في حكم سورية، وهذا ما يجعله حريصاً على التحصّن بها
بات من السهل إذاً معاينة التلف الكلّي الذي ارتادَ خطاب "المقاومة والممانعة والعروبة" باعتباره وصفة نظام الأسد لأجل قتل السياسة وتسميم فضائها في سورية، بحجّة قُدسية القضية الفلسطينيّة وأولويّتها، فرأينا كيف استسهل بشار الأسد رميَ هذه الأكاذيب الأيديولوجيّة المتعالية بمضمونٍ شعاراتي لا يهتّز، ثمّ التبرّؤ منها! ألم يتحدث يحيى السنوار ذات مرّة عن الساحات العربية الرديفة والمساندة لغزّة وحماس، وسمّى سورية حينها باسم "سورية الأسد" وقال إنَّ فيها جُند الشام على حدّ وصفه، لكن "أسد سورية" صاحبَ الباع الطويل في شراء المذلّة مقابل استمراره بالحكم، لم ينعِ السنوار الذي نسبَ سورية إليه وإلى عائلته، مثلما لم ينعِ باقي قادة محور المقاومة الذين اقتادتهم إليها تباعاً آلةُ التصفية الإسرائيلية.
غير أنّ فرقاً شاسعاً يمكن الاهتداء إليه إنْ قارنا بين استشهاد السنوار في ساحة المعركة، وهو الذي طاولته اتهاماتٌ جمّة بجرّ غزة إلى الدمار، ثم بجرّ محور المقاومة كاملاً إلى المحرقة الإسرائيلية، لكنّ الرجل ماتَ قابضاً على السلاح، في حين أنّ بشار الأسد الذي جرّ سورية كاملةً إلى التقسيم والدمار والتهجير والإبادة الممنهجة والفقر، أتقنَ فنون الاختباء والفرار بحصافة واقتدار، ينتظر أن يقبض ثمن اختبائه الذليل ذاك، ولعل زيارة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، دمشق، الأحد الماضي، هي ما كان ينتظره بشار الأسد لتخفيف محنة الملجأ عليه.
كما أنّ الحديث عن الفروق بين المواقف السياسية المتعلقة بإسرائيل للأنظمة المحيطة بالنظام السوري الذليل، إنّما يُحيلنا مباشرةً إلى تصريحات الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، حين حذّر من تبعات أيّ تحرّكٍ عسكريّ إسرائيلي باتجاه العاصمة السورية دمشق، وتحدّث عن توجّب تفعيل آليات تعاونٍ صريحة، ومثمرة بين روسيا وسورية وإيران لأجل تطويق هذه المخاوف المتمثّلة بالزحف الإسرائيلي التوسّعي المحتمل داخل المنطقة، في وقتٍ يختار فيه رئيس النظام السوري، بشار الأسد، الاختباءَ سلاحاً قد يهزم من خلاله مخاوفَه المريضة المتعلّقة باقتلاعه من حكم سورية إثرّ غارةٍ إسرائيلية طائشة عليه! لكن، وفعليّاً ليس من مصلحة إسرائيل فعل ذلك، أي تصفيةُ حليفٍ غبيّ لها يصعبُ استبداله بمرادفٍ آخر شبيهٍ به، أمينٍ على تنفيذ كلّ ما يوكل إليه من دون اعتراضٍ أو مناقشة، ومن المرجّح أن رئيس النظام السوري يدرك أنّ تفاهته السياسية هي ثمن بقائه في حكم سورية، وهذا ما يجعله حريصاً على التحصّن بها.
جرّ بشار الأسد سورية كاملةً إلى التقسيم والدمار والتهجير والإبادة الممنهجة والفقر، أتقنَ فنون الاختباء والفرار بحصافة واقتدار
جاء في الإصحاح 11 من سفر إشعياء: "فيعود الربُّ ليمدَّ يده ثانيةً، ليستردَّ البقيّةَ الباقية من شعبه، من أشور ومصر وفتروس وكوش وعيلام وشنعار وحماة ومن جزائر البحر، وينصبُ رايةً للأمم، ويجمع منفيي إسرائيل، ومشتتي يهوذا من أطراف الأرض الأربعة، وينقضون على أكتاف الفلسطينيين غرباً، ويغزون أبناء المشرق معاً، ويستولون على بلاد أدوم وموآب، ويخضع لهم بنو عمون" ولعل الإيحاءات التي يُمسك بها هذا النص جيداً، تفيدُ عقليّةَ اليمين الإسرائيلي الحاكم في إعادة بعث تلك المدلولات الميثولوجيّة في أزمنة لاحقة لزمن كتابتها، إذ إن نتنياهو، وفي خطاب تلفزيونيّ له أواخر أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، تحدّث صراحةً بأنه سيحقق نبوءةَ إشعياء، بحيث لن يسمع الإسرائيليون بعد ذاك التاريخ عن الخراب في أرضهم، وسيكون (رئيس الوزراء الإسرائيلي) سبباً في تكريم شعبه، وبأن شعبه هم أبناء النور، وغيرهم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام، وفي مسلك كلامه حينها عرّجَ نتنياهو على ما تناوله الإصحاح التاسع من من السفر ذاته "لكن لن يخيّم ظلام على التي تعاني من الضيق، فكما أذلَّ اللهُ في الزمن الغابر أرضَ زبولون، ونفتالي، فإنه في الزمن الأخير يُكرّم طريق البحر وعبر الأردن جليلَ الأمم، الشعب السالك في الظلمة أبصرَ نوراً عظيماً، والمقيمون في أرض ظلال الموت، أضاء عليهم نور".
ولعل تلك الميثولوجيّة البرّاقة والعنيدة، هي التي تستميل العقل الإسرائيلي المتطرّف نحو استعجالِ مزيدٍ من فضائع التوسّع والإبادة، على الأقل هذا ما نُدركه حين نُترّجم إلى العربية سلوك الكيان السياسي والعسكري منذ عامٍ على الأقل، ومن المحزن أيضاً ألا يأتي إشعياء النبيّ على ذكر بشّار الأسد في أيّ من إصحاحات سفره الطويل البالغ، عددها 66 سفراً، إذ لا وجود لشخصيةٍ تحمل اسم أسد العروبة، أو الرفيق الأمين العام المناضل بشراسة، المنذور لدحرِ إسرائيل من النهر إلى البحر، لكن التاريخ بإمكانه أن يكون أنبلَ من النبوءة، حين يتحدث عن فأر دمشق المختبئ، وكيف استطاع تدمير البلاد وبيعها، من دون أن يمسك به أحد.