عندما توازن تركيا خياراتها بين روسيا والغرب
على وقع الحشود العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية، أجرى المسؤولون الروس والغربيون مفاوضاتٍ مكثفة على أكثر من مستوى خلال الأسبوع المنصرم، في مسعى إلى نزع فتيل حرب جديدة تلوح في هذه المنطقة. في العاشر من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، التقى دبلوماسيون أميركيون وروس في جنيف. وبعد يومين، انعقد مجلس حلف شمال الأطلسي (الناتو) وروسيا في بروكسل قبيل اجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في الأسبوع نفسه. كان القاسم المشترك في الاجتماعات الثلاثة أنّها أخفقت جميعها في تهدئة التوتر. تطالب روسيا، من بين أمور أخرى، وضع حدود لتوسع "الناتو" على أطرافها الشرقية، والانسحاب من الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي. كما تطلب من الحلف التوقف عن التعاون مع أوكرانيا، وضمانًا قانونيًا بأن أوكرانيا وجورجيا لن تنضما أبدًا إلى الحلف، كما وُعدتا سابقًا. الرسائل التي تُرسلها موسكو في هذا الخصوص متضاربة، فبينما تُشير حشودها العسكرية إلى أنّ خيار شن هجوم جديد على أوكرانيا مطروحٌ على الطاولة، ينفي مسؤولوها هذا الأمر. يبدو بوتين واضحاً في مسعاه إلى إعادة رسم خطوط المواجهة التي كرّستها الحرب الباردة بين روسيا والغرب قبل ثلاثة عقود، لكنّه غير واضح في خطواته المستقبلية في حال لم يستجب الغرب لمطالبه، ما يضع الغربيين في حالة من عدم اليقين.
في السنوات الأخيرة، تدهورت علاقات أنقرة مع الغربيين بفعل تعارض مصالحهم في قضايا دولية كثيرة
في العلن، سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تقديم أنفسهم جبهة موحّدة في الأزمة، لكنّ الواقع لا يبدو كذلك، فإلى جانب قلق دول أوروبية من أفكار طرحتها الولايات المتحدة في محادثاتها مع موسكو قبل عرضها على الحلفاء، تبدو تركيا قلقة من ارتداد هذا الصراع عليها، بالنظر إلى وضعها الاستثنائي للغاية، فهي من جانب عضو في حلف الناتو، وتمتلك ثاني أكبر جيش فيه بعد الولايات المتحدة، كما لديها علاقات وثيقة مع أوكرانيا تطورت، أخيراً، لتشمل جوانب عسكرية. ومن جانب آخر، تحافظ على علاقة جيدة نسبياً أو، بشكل أدق، غير متوترة للغاية مع موسكو. كما لديها مصالح متداخلة معها في آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأخيرة، تدهورت علاقات أنقرة مع الغربيين بفعل تعارض مصالحهم في قضايا دولية كثيرة. كانت الشراكة التي أبرمتها تركيا مع روسيا عقب إصلاح العلاقات بينهما بعد إسقاط المقاتلة الروسية عام 2015 أحد الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى تدهور علاقاتها بالغرب، سيما الولايات المتحدة. على الرغم من ذلك، ظل موقف تركيا الداعم وحدة الأراضي الأوكرانية، والرافض الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، إحدى نقاط الالتقاء القليلة بين أنقرة والغرب. ومع ذلك، سعت أنقرة إلى تبنّي سياسة متوازنة في هذه المسألة من خلال رفض ضم القرم من دون الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا، وتقديم نفسها على الدوام وسيطاً بين موسكو وكييف.
قبيل المفاوضات الروسية الغربية، حثّ وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، روسيا والغرب على تجنّب أية استفزازات، في نداءٍ يعكس مخاوف أنقرة من ارتدادات تفاقم الصراع بين الجانبين عليها. على مدى السنوات الماضية، حثّت أنقرة باستمرار حلفاءها في "الناتو" على الالتزام باتفاقية مونترو لعام 1936، والتي تهدف إلى ضمان الاستقرار في منطقة البحر الأسود. على عكس معظم القضايا الدولية التي نجحت تركيا وروسيا في إدارة الخلافات بشأنها على قاعدة التعاون التنافسي، ظل التعارض بينهما حول المسألة الأوكرانية عقبة ثانوية في علاقاتهما. لكن هذه العقبة أضحت رئيسية الآن، مع تصاعد التوتر الروسي الغربي إلى مستوىً يُعاد فيه رسم جغرافية خطوط المواجهة بين الطرفين. علاوة على ذلك، يؤثّر هذا التحول، بشكل مباشر، على منطقة حساسة لروسيا وتركيا هي البحر الأسود، ما يزيد من الضغوط على سياسة التوازن التي تنتهجها تركيا بين روسيا والغرب منذ سنوات. يتركّز القلق التركي في الوقت الراهن على امتداد الصراع الروسي الغربي إلى البحر الأسود، إلى جانب الحذر المتزايد من السياسات التوسعية الروسية في هذه المنطقة.
استجابة "الناتو" لمطلب روسيا التعهد بعدم ضم أوكرانيا وجورجيا للحلف مستقبلاً، سيُضعف مساعي أنقرة لإعادة التوازن مع روسيا في البحر الأسود
ساهمت اتفاقية مونترو في إرساء حالة من توازن القوى في البحر الأسود على مدى أكثر من ثمانية عقود، وإبقائه بعيداً التوترات. لكن التحولات التي حدثت خلال العقدين الماضيين تسببت بخلل في هذا التوازن، وقللت من جدوى استراتيجية تركيا في هذا الخصوص. فإلى جانب انضمام بلغاريا ورومانيا إلى "الناتو"، عملت روسيا على تعزيز وجودها العسكري في البحر الأسود. في عام 2008، دعمت هجوم الانفصاليين على القوات الجورجية، لإخراجها من إقليم أبخازيا قبل الاعتراف باستقلاله إلى جانب أوسيتيا الجنوبية. وبعد ستة أعوام، ضمّت شبه جزيرة القرم إليها. لم تكن دوافع بوتين محصورة فحسب بمواجهة تمدّد "الناتو" شرقاً، بل لأن البحر الأسود يُعد نقطة وصول روسيا إلى البحر الأبيض المتوسط، حيث ينمو دورها هناك بشكل كبير. وبالنظر إلى أن الصراع الروسي الغربي يؤثر بشكل مباشر على الوضع في البحر الأسود، فإن الموقف الذي ستتخذه أنقرة في الأزمة الحالية أصبح أكثر حيويةً من أي وقت مضى.
في الوقت الحالي، تراهن تركيا على إمكانية حل الأزمة على حدود أوكرانيا دبلوماسياً. مع ذلك، إن لم يتمكن الجانبان من التوصل إلى تسوية للصراع، فإنّ استجابة "الناتو" لمطلب روسيا التعهد بعدم ضم أوكرانيا وجورجيا للحلف مستقبلاً، سيُضعف مساعي أنقرة لإعادة التوازن مع روسيا في البحر الأسود. وفي حال تطوّرت الأزمة إلى صراع عسكري جديد، فسيضع ذلك تركيا أمام خيارات صعبة، فمن جانب، سيُعرّض انخراطها، وهو مستبعد، في أيّ حربٍ جديدة إلى جانب كييف و"الناتو" مصالحها مع روسيا لخطر كبير. ومن جانب آخر، سيضرّ الحياد في أيّ مواجهة عسكرية، للغاية، بشراكتها السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية مع أوكرانيا، وسيُلحق ضرراً إضافياً بمكانتها في "الناتو". من المرجّح أن تتبنّى أنقرة سياسة الحياد العسكري في مثل هذا السيناريو مع الموقف السياسي نفسه، الداعم لكييف الذي تبنته بعد 2014. لكنّ هذا الحياد، الذي سيُنظر له في أنقرة على أنّه يحدّ من الأضرار عليها، سيُكرّس خلل التوازن في البحر الأسود لصالح روسيا. ففي حرب 2014 أدّت سيطرة موسكو على كثير من سفن البحرية الأوكرانية والبنية التحتية للموانئ إلى إنهاء تفوق البحرية التركية في المنطقة.
إخفاق روسيا والغرب في التوصل إلى تسويةٍ يُمكن أن يؤدّي إلى نهاية عملية التوازن طويلة الأمد لتركيا بين "الناتو" وروسيا
لدى موسكو أوراق ضغط مؤثّرة يُمكن أن تمارسها على أنقرة لإبقائها على الهامش في الصراع الراهن، فإلى جانب الضغط العسكري الذي تمارسه بالفعل على الوجود التركي في شمال سورية، فإنّ بمقدورها ممارسة مزيد من الضغوط لإضعاف دور تركيا في آسيا الوسطى، وعرقلة طموحها لفتح معبر برّي مع أذربيجان عبر أرمينيا. كان التدخل الروسي الأخير في أزمة كازاخستان مؤشّراً على أنّ موسكو مستعدّة لتهميش الدور التركي في الجمهوريات السوفييتية السابقة الناطقة باللغات التركية إذا ما قرّرت ذلك. في المقابل، لا يزال هناك ما يُمكن أن يقدمه بوتين لأردوغان لدفعه إلى الحياد، فإلى جانب تراجع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر بيلاروسيا وأوكرانيا، سيؤدي تعليق ألمانيا المحتمل لخط نورد ستريم 2، إذا ما تفاقم الصراع إلى زيادة إمدادات الغاز الروسية، عبر خطوط أنابيب تمر عبر تركيا، ما يعزّز طموحات أنقرة لتعزيز دورها دولة عبور للطاقة إلى أوروبا. لكن هذه المنافع المحتملة لسياسة الحياد ستزيد من النظرة السلبية داخل "الناتو" إلى دور تركيا فيه.
تسعى أنقرة حالياً إلى موازنة خياراتها بدقّة في هذا الصراع، لكن إخفاق روسيا والغرب في التوصل إلى تسويةٍ يُمكن أن يؤدّي إلى نهاية عملية التوازن طويلة الأمد لتركيا بين "الناتو" وروسيا، إلى جانب تقييد طموح النفوذ الإقليمي الذي حدّد فترة حكم الرئيس رجب طيب أردوغان. مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية المقرّرة منتصف العام المقبل، يسعى أردوغان إلى تصفير المشكلات الخارجية لأنقرة، من أجل التفرّغ للتحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد. وعلى الرغم من نجاحه في تهدئة التوتر مع الأوروبيين في شرق المتوسط وإعادة إصلاح العلاقات مع بعض القوى الإقليمية العربية، فإنّ الأزمة الراهنة بين روسيا والغرب قد تُشكّل ضربة قوية لهذه المساعي. أكثر من يُقلق تركيا في هذه المرحلة أن تجد نفسها مجبرةً على التعامل مع صراع عسكري يلوح في الأفق على جبهتها الشمالية، وأن يدفعها هذا الأمر إلى الاختيار بين خيارين كلاهما مرّ، أو اختيار الحياد الذي قد يؤدّي إلى عزلتها ووضعها على الهامش.