عندما تهدّد "الحالة المجرية" الوحدة الأوروبية

13 سبتمبر 2022
+ الخط -

يعبر رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، من حين إلى آخر، عن اعتراضه على الطريقة التي حاولت بها الدول الأوروبية معالجة الأزمة الأوكرانية، مشدداً على أنّ من الصعب خسارة روسيا. أخيراً، مضت المجر إلى توقيع عقد جديد مع "غازبروم" الروسية، بالتزامن مع التصعيد الأوروبي المتمثل في مساعي تحديد أسعار الطاقة.
في تعليقاتهم على هذه القضية،  كثيراً ما يذكّر المحللون الأوروبيون بأنّ المجر دولة معروفة بتغريدها خارج السرب، وأنّها جزء من معسكر الاستبداد المقابل لمعسكر "الديمقراطيات" الذي يجمع الدول الغربية، وهذا ما يفسّر علاقتها الخاصة بروسيا. و"الديمقراطيات" لافتة جديدة تشمل دولاً متوافقة الرؤى، ليس فقط بشأن الموضوع الروسي، لكن أيضاً حول مجمل القضايا الاجتماعية، وهي كلمة لا تشمل كثيراً من دول الشرق الأوروبي، كما لا تشمل تركيا التي لا يقر الغرب بأنّها ديمقراطية.
بدأ الاختلاف مع المجر منذ عبّر أوربان عن عدم اقتناعه ببعض ما يعدّ ثوابت أوروبية، كضرورة فتح الأبواب للمهاجرين وتأسيس نظام محايد إزاء جميع الأديان. بالنسبة لأوربان وجمهوره اليميني، تعدّ الهجرة مهدّداً حقيقياً، ولا يمكن التسامح مع فكرة إدماج أعداد كبيرة من المهاجرين، لما يمثله ذلك من خطر وتهديد للثقافة المحلية. ويتحفّظ النظام الحاكم في المجر أيضاً على مفهوم "العلمانية"، ويشدّد على الهوية المسيحية التي يعتبر أنّ من الواجب أن تسود في البلاد، ويربط هذا بسياسات مناهضة لمفاهيم "الجندر" ولحرية الميول الجنسية. وكانت هذه النقاط تجعل المجر قريبة من روسيا التي لم تكن تخوض حرباً سياسية فقط، وإنّما أيضاً ثقافية مع جيرانها الأوروبيين، كما يضع هذا المجر في مركز وسيط بين شركائها الأوروبيين ودول مثل روسيا وتركيا التي تتشارك معها جزءاً كبيراً من نظرتها للنطاق الاجتماعي.

حتى في الدول الأصيلة في نادي الديمقراطيات هناك من يؤمن بأطروحات أوربان، وهو ما يظهر في توالد الأحزاب اليمينية والقومية

ومن الاختلافات المهمة، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة مع تركيا، ما يرتبط بالحساسية من المهاجرين المسلمين ومحاولة التضييق على المقيمين منهم. وكانت هذه النقطة تجعل التنسيق بين البلدين صعباً في ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية والوضع الإقليمي.
ويلاحَظ أيضاً أنّ التقسيم الدعائي للدول ما بين "ديمقراطيات" و"استبداديات" لا يصف الأزمة بشكل موضوعي، فحتى في الدول الأصيلة في نادي الديمقراطيات هناك من يؤمن بأطروحات أوربان، وهو ما يظهر في توالد الأحزاب اليمينية والقومية، وحصولها على ملايين المؤيدين. ظهر هذا في  الانتخابات الفرنسية أخيراً، والتي نافست فيها الأحزاب اليمينية بقوة، إلى درجة أنّها كادت أن تعصف برئاسة ماكرون. 
السؤال هنا: ماذا كان سيحدُث إذا تسلم اليمينيون أو العنصريون الحكم بشكل ديمقراطي في فرنسا، وهو الاحتمال القائم، والذي يمكن أن تسفر عنه أي انتخابات مقبلة؟ هل ستنتقل فرنسا في هذه الحالة إلى معسكر الاستبداد؟
مشكلة التفكير الأوروبي الذي تمثله دول مثل فرنسا وألمانيا هي في أنّه يصر على تعريف الخيارات المثلى للناس، فكان موقف السياسيين الأوروبيين واضحاً في دعم الأحزاب التي اتحدت ضد أوربان، ويمكن قول الشيء ذاته في ما يتعلق بالرئيس التركي أردوغان، وبغيره من الزعماء الذين ترى "الديمقراطيات" أنّ حكمهم لا يتوافق معها.

يطرح اليوم سياسيون كثر أفكاراً عن خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، معتبرين أن التجمّع يحد كثيراً من قدرة موطنهم على الحركة في النطاق الدولي

هذا العداء جعل حزب أوربان "فيدس" يرفع شعاراً أكثر راديكالية، وهو "أوروبا أو أوربان" والذي وضع الناخبين أمام اختياراتٍ ضيقة، فإما أوربان الذي يمثل الحسّ القومي والتقاليد، أو أوروبا بليبراليتها الاقتصادية والاجتماعية وبرنامجها الذي يقود لإذابة الهوية وتسييل تعريف الوطنية. سهّلت هذه المقاربة حصول الأحزاب اليمينية على أصوات الغالبية، ومنحت أوربان فرصة مجدّدة للفوز.
تتمثل الخطورة الأكبر في تهديد الوحدة الأوروبية، فالأحزاب اليمينية لا تبدو شديدة الحرص على مؤسسة الاتحاد، بما تمثله من اقتصاد نيوليبرالي وتوحيد للعملة. اليوم يطرح سياسيون كثر أفكاراً عن خروج بلادهم من الاتحاد، معتبرين أن التجمّع يحد كثيراً من قدرة موطنهم على الحركة في النطاق الدولي، وعلى مستوى التشريع الداخلي.
بعد عقود من نشر كتابه واسع الانتشار "نهاية التاريخ" يمكن أن نقول لفرانسيس فوكوياما بثقة إنّ التاريخ لم ينتهِ، وإنّ الدول التي تبنّت عقوداً الأنظمة الرأسمالية ومفاهيم النيوليبرالية باتت تتساءل اليوم عما إذا كان من الضروري أن تبقى عند هذه المسارات. 
كان النموذج الغربي مثيراً للإعجاب منذ نهاية القرن الماضي، وازداد الاهتمام به بعد سقوط المعسكر الاشتراكي المنافس، واعتبر كثيرون أنّ السرّ في الازدهار الذي تعيشه الدول الغربية يكمن في تبنّيها مفاهيم الليبرالية واقتصاد السوق الحر. ويبقى هذا التبرير اليوم مكان تساؤل، فهل كان تبنّي "الديمقراطية الليبرالية" السبب الوحيد حقاً في الازدهار والانتعاش الاقتصادي؟ وهل تنجح جميع الدول التي تتبنّى هذا النظام بالقدر ذاته؟

يعترض مواطنون أوروبيون على الاتحاد، لأنهم يعتبرون أنه يحدّ من قدرة بلادهم على تحديث اقتصادها

أيّاً كانت الإجابة، لم يعد الاتحاد الأوروبي هو نفسه ذلك النموذج البرّاق والمعبّر عن النجاح. وبالنسبة لأشخاص مثل أوربان، فإنّهم يعتبرون أنّ ذلك الاتحاد تجاوزه التاريخ، واستنفد ما يمكن أن يقدمه لدوله ومواطنيه، ولا يمكن الاستمرار في القبول بتدخلاته الفجّة في السياسة الداخلية، بحجة الوحدة الأوروبية التي تفرض، من بين أشياء أخرى، حرية انتقال البشر والبضائع والأموال، من دون قيود أو رقابة أو احترام للسيادة.
يعترض مواطنون أوروبيون على الاتحاد، لأنهم يعتبرون أنه يحدّ من قدرة بلادهم على تحديث اقتصادها وإنقاذه على وقع الأزمات المتلاحقة الحالية (كورونا، أوكرانيا، الطاقة...). الحقيقة أن عضوية الاتحاد تضع عقباتٍ كثيرة تعوق الانفتاح الحر على طرق جديدة وآليات لانعاش السوق أو تشجيع المستثمرين. في المجر، التي ما أن أصبحت "أوروبية" حتى غزتها الشركات متعدّدة الجنسيات، يطرح سؤال حول ما إذا كانت هذه العولمة الاقتصادية مفيدة. بالنسبة لرافضي "الأورَبة" ساهمت سياسة "تدويل" الاقتصاد في إقصاء مجموعة كبيرة من رجال الأعمال المحليين، ما أثر على حياة عشرات الآلاف من العمال وصغار الموظفين.
بالتأكيد، هناك مستفيدون من النظام العولمي النيوليبرالي الذي ساعد في مضاعفة ثرواتهم، لكن هؤلاء يبقون أقلية. ترى هذه الأقلية في الدفاع عن الاتحاد الأوروبي وما يتبنّاه من اقتصاد سوق دفاعاً عن مصالحها، ولذا ستكون على الدوام معارضة للأحزاب القومية والتيارات الرافضة لأوروبا. في المقابل، تجمع أحزاب وتيارات اليمين أعداداً من المؤمنين بأنّ مستقبلهم سيكون أفضل في حالة الاقتصاد الوطني، المنفتح بقدر معقول على جيرانه الأوروبيين.

مدى الفاتح
مدى الفاتح
كاتب وباحث سوداني في باريس، دبلوماسي سابق