عندما تعترف فرنسا بخطيئة ولا تعتذر
حظي استقبال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الثلاثاء 2 مارس/ آذار الجاري، أفراد عائلةٍ جزائرية باهتمام إعلامي مستحق. إذ لم تتعلق هذه المناسبة بحدثٍ عادي في حياة هذه العائلة، أو بانفتاح الرئيس الفرنسي على أفراد عاديين غير فرنسيين، وإنما اتصل الأمر بخصوصية وضع تلك العائلة، وعلاقة أسلافها بفرنسا. والحال أن من فُتحت لهم أبواب الإليزيه هم أحفاد المحامي والمناضل علي بومنجل، الذي اختطفته القوات الفرنسية عام 1957 لمناصرته القضية التحررية لشعبه، وزجته في زنزانة انفرادية، ثم أذاعت السلطات الفرنسية، بعدئذ، أنه قد انتحر بإلقاء نفسه من شرفة طابق سادس. صحّح ماكرون الرواية، قائلا إن الضحية قد عُذّب وقُتل، وألقي به من أعلى بناية، في 23 مارس/ آذار 1957، لتصوير الأمر انتحارا، وما هو انتحار. ولا شك أن الأحفاد، إضافة إلى أرملة الشهيد وأبنائه، قد أصابوا مكسبا معنويا كبيرا، فما كان للمناضل المحامي أن يختتم نضاله بإزهاق روحه بيده، ولا أن يلقي بنفسه من علٍ، وهو مسلوب الحرية بين أيدي السلطات القائمة على احتلال بلده. أما الفاعلون فهم من مراتب عليا في الدولة، ممن كانوا منغمسين، بكامل أسلحتهم وأعتدتهم وذخائرهم، في "حرب الجزائر"، كما تسميها الأدبيات الفرنسية الرسمية، فيما هي حربٌ فرنسيةٌ على الجزائريين المطالبين بالاستقلال، وإنهاء احتلال غاشم طويل بدأ في العام 1830 لبلدهم.
دعا ماكرون، في هذه المناسبة، إلى رؤية التاريخ وجها لوجه، وهو يعني الوقائع ومجريات الأحداث الكبيرة. وقال، في هذا الصدد، إن تصحيح الرواية الرسمية (نزع التدليس عنها) يتم باسم فرنسا. وهذا اعتراف ذو شأن كبير، يعيد بعض الاعتبار للشهيد وللحقيقة المُفترى عليها، غير أن الرجل حرص على التعامل مع الأمر حادثةً معزولةً خارجة عن سياق القمع المنهجي لثورة الجزائريين، وأكثر من ذلك، فإنه إذ حرص على إبداء مشاعر المواساة لضيوفه، فإنه تفادى الاعتذار عما حدث. وعلى مدى عقود، أخفقت الدولة الفرنسية، ممثلة بالكتل الحزبية التي صعد منها الرؤساء تباعا إلى سدّة الحكم، في التصالح مع الماضي الاستعماري المشين بالاعتراف به بغير لبس، والانفصال عنه، والاعتذار عنه وتعويض الضحايا ومن يمثلهم، ناهيك عن مطالبة حقوقيين جزائريين بإجراء محاكماتٍ لكبار القتلة، غير أن المكابرة وتزييف الوقائع أخذا يتقلصان باتجاه الاعتراف بأخطاء (خطايا) متناثرة وقعت، والسعي إلى تعويض معنوي عبر تطوير العلاقات مع البلد المستقل الذي كان مستعمرة سابقة، بل "جزءا لا يتجزأ من فرنسا"، حسب ادّعاءات المستعمرين.
ما تسميه الأدبيات الفرنسية الرسمية "حرب الجزائر" كانت حربا فرنسية على الجزائريين المطالبين بالاستقلال، وإنهاء احتلال غاشم طويل بدأ في 1830 لبلدهم
وبينما جاء استقبال ماكرون أربعة من أحفاد علي بومنجل، في بادرة تهدئةٍ أوصى بها تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، حول "مصالحة الذاكرة" بين فرنسا والجزائر، فإنه سبق لمسؤول فرنسي رفيع، في العام 2001، هو الجنرال السابق بول أوسارس، الذي كان يرأس المخابرات الفرنسية في الجزائر في أثناء الاستعمار، أن اعترف بإصدار أوامر بقتل عشرات السجناء الجزائريين، وبينهم بومنجل. ولم ينل صاحب الاعتراف المهول أي مساءلة عن مآثره تلك. غير أن الاعتراف جاء هذه المرة، وبعد عشرين عاما على الاعتراف الأول، من رأس الدولة وباسم فرنسا، مرفوقا بالنزوع المعلن إلى طي صفحة الماضي، والتغاضي المتعمّد عن الإقرار بما يترتب عليه من تداعيات ونتائج. وهذا حال قوى دولية كبيرة وغير كبيرة (مثل البرتغال..)، نشطت، في القرون القليلة الماضية، في عمليات غزو واحتلال واستعباد، وترفض التصالح مع ماضيها بالاعتراف به، والقبول بنتائج هذا الاعتراف، وذلك على الرغم من تغير الأحوال، وبروز قوى سياسية جديدة، وصلت إلى الحكم من دون أن تكون هي نفسها ذات ماض استعماري.
يبدو أن العدالة ما زالت، في جانب كبير منها، صناعة فرنسية، يتم إنتاجها واستخدامها لفائدة الفرنسيين دون سواهم
وبالنسبة لفرنسا، على الخصوص، فقد اتسم ماضيها القريب بتخبّط غريب، فبينما كانت تقاوم الاحتلال النازي في أواسط أربعينيات القرن الماضي، وتنتصر عليه، وترفع لواء قيم الحرية والتحرّر، فإن الفترة تلك وما تلاها شهدت تشديد قبضتها على الجزائر، وارتكاب المذابح فيها. ولم تكن مصادفةً أنه، مع اشتداد مقاومة الجزائرين محتليهم، ومع اكتساب قضيتهم مزيداً من التأييد، فقد عمدت فرنسا في 13 فبراير/ شباط من العام 1960، قبل عامين من التسليم باستقلال هذا البلد وحرية شعبه، إلى إجراء أولى تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية. وأتبعت ذلك بإجراء 17 تجربة نووية خلال ستة أعوام، وحتى العام 1966، بُعيد استقلال الجزائر بأربعة أعوام، ما أورث سكان تلك المنطقة كوارث انبعاث الإشعاعات النووية. وقد اعترفت فرنسا في العام 2010 بحق الضحايا بالتعويض، وكانت النتيجة أنها عوّضت جزائريا واحدا، فيما ذكرت دراسات فرنسية أن 40 ألف شخص قد تضرّروا من هذه التجارب .. وهكذا طوت فرنسا من جهتها الملف، اذ اعتبرت، في هزء بيّن وغطرسة فاقعة، أن شخصا واحدا قد تأثر سلبا بـ17 تجربة نووية، ويستحق التعويض عنه، والحال أن توثيق فظائع تلك المرحلة يملأ مكتبة كاملة، قبل الولوج إلى الحقبة الرقمية.
انشغلت وسائل الإعلام الفرنسية بمحاكمة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، والحكم عليه بثلاثة أعوام، عام منها واجب النفاذ على ما سميت قضية التنصت، والتدليل بزهو على أن العدالة الفرنسية لا تقف عند حد، وأنها عامّة وعمومية لا استثناء فيها، وأن رئيساً ثانياً للبلاد، بعد جاك شيراك، يتعرّض للمحاكمة في دولة القانون، فيما تلقى أحفاد علي بومنجل، في الأسبوع نفسه، من لدن الرئيس ماكرون، مواساة عاطفية واستقبالاً دافئاً في قصر الرئاسة، واعترافا صريحا من رأس الدولة بجريمة القتل تلك. بيد أنه لم يكن للاعتراف الشجاع، ولا لدفء الاستقبال، ولا لعاطفة المواساة، ما هو بعد ذلك من مقتضياتٍ قانونيةٍ تُذكر تنصف الشهيد، إذ يبدو أن العدالة ما زالت، في جانب كبير منها، صناعة فرنسية، يتم إنتاجها واستخدامها لفائدة الفرنسيين دون سواهم.