عندما تتصدر فرنسا مؤتمر بغداد
قام الإعلام الحكومي العراقي بدعاية واسعة عن أهمية ما سمّي "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" الذي عقد قبل أيام في بغداد بحضور دول إقليمية وخليجية، وبمشاركة فرنسا، وغياب أي تمثيل للاحتلال الأميركي، ولو على مستوى سفير الولايات المتحدة في بغداد. وقراءة سريعة للبيان الختامي للمؤتمر تفيد بخلوّه من ذكر أي برنامج تعاون حقيقي محدّد، وأي شراكة ملموسة بين العراق والدول المجتمعة. كما أنه لم يتم توقيع أي اتفاق مشترك لتعاون وشراكة بين العراق والدول المجتمعة! البيان الختامي ورقة مطلية بجمل تلمع الحكومة العراقية، حيث يشيد بمسيرتها من جهود دبلوماسية لدعم استقرار العراق والمنطقة: "للوصول إلى أرضيةٍ من المشتركات مع المحيطين، الإقليمي والدولي، في سبيل تعزيز الشراكات السياسية والاقتصادية وتبني الحوار البناء وترسيخ التفاهمات على أساس المصالح المشتركة". ويكرر نص البيان المواضيع الوهمية ذاتها التي تضمنتها بيانات المؤتمرات السابقة والعديدة التي انعقدت في ما سبق، بمناسبة الانتخابات وتسويقها، سواء في العراق أم في دول الجوار، مثل "تضحيات العراق في القضاء على الإرهاب بمساعدة التحالف الدولي، مجدّدين رفضهم لكلّ أنواع وأشكال الإرهاب والفكر المتطرّف".
ليست القراءة السريعة وحدها ما يفند عنوان المؤتمر وأهدافه، بل لن يصدّق العراقيون كلمة عنه، وما قيل عنه، لأنّهم اعتادوا، قبل كل انتخابات، على جملة من اللقاءات والمؤتمرات والوعود لإعادة البناء والشراكة والتعاون، سواء مع الدول العربية، وخصوصا السعودية ودول الخليج، أو مع دول التحالف. ولأنهم طوال 18 عاما لم يروا على ارض الواقع أي مشاريع محسوسة أو بناء وتعمير، وشاهدوا كيف أن هذه الدول تنهب خيرات البلاد وتسرق حتى لقمة عيش المواطنين وزرعهم، وتسوء أوضاع الشعب العراقي عاما بعد عام، وانتخابات بعد انتخابات ومؤتمرات بعد مؤتمرات. وما التظاهرات المستمرّة، جديدها "ثورة تشرين" (2019) وإسقاطها حكومة عادل عبد المهدي، وتعثر إقامة أكثر من حكومة، حتى تم تعيين مصطفى الكاظمي بحجّة "الاستجابة لمطالب الثوار" في التغيير، غير أن الكاظمي تجاهل كل ما وعد به الشعب العراقي، وسار على خطى سلفه في التغاضي عن قتل المتظاهرين واغتيال قادتهم وتهديدهم.
يبدو أن أميركا كلفت فرنسا تسويق الانتخابات، لتكنس "تمثيليات ومناكفات إلقاء الصواريخ على ساحة سفارتها وقرب قواعدها" أتباع إيران من مليشيات
ليس مؤتمر بغداد هذا إلا دعاية للانتخابات المقبلة التي تريد الولايات المتحدة بأي ثمن تنظيمها، كما في كل مرة، وتجديد ولاية الكاظمي أربع سنوات أخرى، دعاية معادة أصبحت بائتة ومجترّة مرات ومرات، لتسويق المتعاونين مع المحتلين قبل كل انتخابات، كما تضمنه البيان الختامي بشكل صريح. يقول بـ"دعم المشاركين لجهود الحكومة العراقية في تعزيز مؤسسات الدولة وفقا للآليات الدستورية وإجراء الانتخابات النيابية... ودعم جهود العراق في طلب الرقابة الدولية لضمان نزاهة وشفافية عملية الاقتراع المرتقبة"، وهذا هو بيت القصيد من كل ضجّة المؤتمر.
لقد اعتادت الولايات المتحدة، قبل كل انتخابات في العراق، أن تتولى تسويق عملية الانتخابات بنفسها، سواء عبر مسؤولين في إدارتها أو عبر سفيرها في العراق وجولاته المكوكية بين الأحزاب، بالتنسيق مع السفير الإيراني. لكن يبدو أنها قد كلفت، هذه المرّة، فرنسا لأداء هذه المهمة، لتكنس "تمثيليات ومناكفات إلقاء الصواريخ على ساحة سفارتها وقرب قواعدها" أتباع إيران من مليشيات، وتغلق بوجههم الباب من ناحية. ومن ناحية أخرى، تولي هذه المهمة المتعبة لشريكتها فرنسا التي ترتبط بعلاقات خاصة مع طهران، تمكّنها من إدارة هذا الملف كما يجب.
تصدّرت فرنسا مؤتمر بغداد، لأنها منذ سنوات أصبحت أهم شريك للولايات المتحدة في كل عملية الغزو، كما في قيادة حلف شمال الأطلسي، لتدافع عن احتلال العراق وعمليته السياسية، بعد أن كانت مساعدتها تقتصر، بدايةً، على الدعم اللوجستي، وتميزت الشراكة الفرنسية مع الولايات المتحدة بعملية تدمير فرنسا أكبر معقل للمقاومة العراقية، المتمثل بمدينة الموصل، وهي من أكبر الخدمات التي يمكن أن تقدمها دولة للولايات المتحدة، في عملية غزوها العراق منذ 2003.
زار ماكرون مدينة الموصل، وهو يتجوّل فيها فرحا، ونسي أن جيش بلاده في حرب التحالف ضد "داعش" قد حوّل أم الربيعين مدينة منكوبة
جاء الرئيس ماكرون إلى بغداد ليدافع بنفسه عن العملية السياسية، وعن أحزابها ومليشياتها، لإعطاء دفعة قوية لحكومة الكاظمي، ولتثبيت العملية السياسية. بل إنّه طمأن أشرار المنطقة الخضراء، ومن يقبع فيها ممن تلطخت أياديهم بالدم العراقي والفاسدين، بقوله "فرنسا ستبقى في العراق حتى لو غادرت الولايات المتحدة". تصدّر فرنسا مؤتمر بغداد لتجميل العملية السياسية والدفع لاستمرارها دفاعا عن حصتها في الغنيمة لن ينقذ هذه العملية المهترئة من السقوط، بعدما زعزعتها ثورة تشرين التي عمّت كل مدن العراق.
لقد زار ماكرون مدينة الموصل، وهو يتجوّل فيها فرحا، ونسي أن جيش بلاده في حرب التحالف ضد "داعش" قد حوّل أم الربيعين مدينة منكوبة، ما زالت جثث أشخاص من سكانها تحت الأنقاض، ترفض الحكومة التي جاء لدعمها انتشالها، وهي تنتظر أن تبنى بسواعد أبنائها، لا باستثمارات من قتلها وأباد سكانها وحرق مكتباتها ودمر كل مستشفياتها، قبل الانقضاض عليها بالقنابل والطائرات.
اليوم، أمام أنظار العالم، انسحبت الولايات المتحدة، وهي مهزومة من العاصمة الأفغانية، بعد عشرين عاما من حرب كلفتها ألفي مليار دولار. وقبلها بسنوات انسحبت القوات الفرنسية. وغدا سيكون موعد العراق وشعبه مع طرد الغزاة، ومعهم كل متعاون، يجرّون معهم آثام القتل للأبرياء وتدمير بلد بحجج كاذبة وبيع ضمائر لم يعرف لها التاريخ مثيلا.