عندما يفرح الرئيس الإيراني في كركوك
انشغل الإعلام العراقي بزيارة الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان العراق، واعتبرها "حدثاً استثنائياً واهتماماً كبيراً بالعراق، بسبب موقعه الجيوسياسي وحاجة دول المنطقة إليه لتعزيز الأمن والاستقرار ومحاربة الإرهاب". وأسهب مُحلّلو هذا الإعلام وخبراؤه في امتداح العلاقات الثنائية المتميّزة التي تربط البلدين. لكن لا أحدَ من إعلاميي عشرات القنوات التي تضخّ أخبارَ الزيارة "المتميّزة" تطرَّق إلى المغزى الحقيقي من زيارة بزشكيان، ولا إلى استعجاله أصلاً زيارة العراق قبل توجّهه إلى نيويورك.
لم يكن توقيع اتفاقات جديدة تضاف إلى الاتفاقات الكثيرة الموقّعة بين إيران والعراق منذ أكثر من عقد ونصف العقد، مع الوفد الاقتصادي المرافق، سبب زيارة الرئيس الذي شدّد هو ومرافقوه على الجانب العراقي، وكرّروا عليه، في تهديد مُبطَّن، ضرورة توسيع نطاق الاستيراد من إيران، وبشكل أوسع ممّا هو عليه، أي الاعتماد على السوق الإيرانية حصرياً، كما أحضر معه مديرةَ البنك المركزي لإعادة التفاهم على ضخّ الدولار من البنك المركزي العراقي، الذي أرست قواعده إيران والولايات المتّحدة، وعملت به حكومات المنطقة الخضراء واحدةً من أولويات علاقتها وعملها لتزويد إيران بالعملة الصعبة. لكنّ الرئيس الإيراني فاجأ حكومة العراق، المشغولة والغارقة في قضايا الفساد وبالهجوم على قوانين حقوق المرأة والعائلة، بزيارةٍ كي يحتفي من قلب السليمانية بالنصر الذي أحرزه على العراق، وعلى الوجود التركي في شماله، وبالسيطرة على أكثر مدينة نفطية واستراتيجية أهمّية في المنطقة، مثل كركوك التي يتّجه منها خطّ نفط جيهان إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا، الذي تطمح إيران إلى تحويل مروره إلى سورية والبحر المتوسّط، بدلاً من تركيا.
جرى ذلك بعملية غير قانونية ولا دستورية بتعيين محافظ كردي على مدينة كركوك، الشاب ريبوار طه، وهو تابع للاتحاد الوطني بقيادة بافل الطالباني الموالي لإيران، فبعد زيارة سريعة إلى بغداد، واللقاء برئيس الوزراء محمد السوداني، توجّه الرئيس الإيراني إلى السليمانية، مقرّ الاتحاد الوطني الكردستاني، حيث ألقى خطاباً طويلاً باللغة الكردية (معروف بأنّه أذري) "تكريماً لوالدته" الكردية، كما قال، في سابقةٍ من رئيس إيراني. وقد ردّ بافل الطالباني، الذي استقبل بزشكيان بالأحضان، على هذه "الهدية" بتسليم ضيفه الإيراني أحد المُعارضين الإيرانيين الأكراد المطلوبين، اعترافاً منه بالجميل، وتعهَّد بطرد كلّ معارض إيراني من الإقليم وبإغلاق مكاتبهم. ... من داخل المنطقة الخضراء الطائفية المُحصّنة (كونكريتيا)، وفي فندق الرشيد، جرت طبخة تعيين ريبوار طه، التي جاء الرئيس الإيراني للاحتفاء بها ومباركتها وإغلاق أيّ باب يسمح ويتجرأ على تغييرها سياسياً أو قانونياً. وتكفي رؤية ابتسامات بزشكيان وفرحه، وكذا الوفد المرافق له، بالإنجاز الذي تحقّق لهم في أثناء استقبال الطالباني لهم، للتأكّد من غرض الزيارة الحقيقي غير المُعلَن.
يطمح محمد الحلبوسي إلى صفقة جديدة تعيده إلى رئاسة البرلمان
جرى تعيين شخصية كردية محافظاً للمدينة بطريقة غير قانونية وغير دستورية، ومخالفة للمادة 13 - رابعاً من قانون انتخابات مجالس المحافظات، الذي ينصّ: "يتمّ تقاسم السلطة بتمثيل عادل بما يضمن مشاركة مكوّنات المحافظة بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات"، وذلك عبر دعوة استلمها تسعة أعضاء فقط من مجموع 16 عضواً في مجلس محافظة كركوك، من طريق مجموعة في "واتساب" أُبعد منها الأعضاء التركمان عمداً، في مخالفة دستورية، وللتعجيل من دون معارضات بتنصيب ممثّل الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي تريده إيران محافظاً دون غيره من الفائزين. ليس ذلك فحسب، بل أخلّ هذا التعيين (ولم يحترم) بما ألزم المجلس نفسه به في محضر اجتماع جلسة أعضاء المحافظة بداية يوليو/ تمّوز الماضي، يضاف إلى هذا كلّه الانقلاب السريع على التفاهمات التي جرت قبلها بيوم مع رئيس الوزراء بوجود أعضاء مجلس المحافظة كافّة، التي سعى فيها السوداني إلى توافق جميع القوى الفائزة في كركوك، ونزع فتيل الخلافات المستمرّة، وخاصّة بين الحزبيين الكرديين. وقد صرّحت الكتلة التركمانية برأيها الرسمي، وهي الوحيدة التي ظهرت واضحةً إزاء هذه المسرحية، فكتبت أنّ "الجلسة لم تكن بعلم ولا بدعوة رئيس السن لمجلس المحافظة، وهو مخالفة للمادة السابعة من قانون مجالس المحافظات رقم 21 لسنة 2008".
لكنّ ما حدث في جلسة فندق الرشيد، التي هي ليست مناسبة رسمية لانتخابات، بل لمثل هذه العمليات غير الدستورية والخارجة عن القانون، والأغلب انقلاب قاده الرئيس السابق لمجلس النواب، محمد الحلبوسي، بمساعدة "الإطار التنسيقي الولائي"، فالحلبوسي، الذي يطمح الى صفقة جديدة تعيده إلى رئاسة البرلمان، قدّم ثلاثة أصوات عربية من تيّار "تقدّم"، زائداً صوت المسيحي رايان الكلداني، وخمسة أصوات للاتحاد الوطني الكردستاني، الذي جمع تسعة أصواتٍ حضرت بعد حصولها على الثمن، خصيصاً من أجل إنجاح هذه المهمّة. لكن، كيف يعقد رئيس سابق للبرلمان، وظيفته تعتبر الضامن للقانون في البلاد ولعمل سلطات الدولة، جلسة ليست غير قانونية فقط، بل جلسة انتخاب، تحت سقف فندق وليس في المحافظة، ولا في أيٍّ من أبنيتها الرسمية التابعة، ومن دون تسلسل إداري، ولا توثيق ولا محضر يُصادَق عليه ويُحتفَظ به وثيقةً؟ بأيّ صفة يدعو هذا الشخص، ويترأّس جلسةً لانتخاب محافظ مدينة، حتّى لو كان أعضاءٌ فيها من كتلته؟ كيف يتجاوز رئيس برلمان سابق، أصبح شخصاً عادياً لا منصب حكوميا له، ويضرب عُرْض الحائط بتفاهماتٍ لأعضاء مجلس محافظة كركوك مع رئيس الوزراء الحالي؟ في المقابل، أين هو رئيس الوزراء من هذه القضية الخطيرة التي تُسخّف الدولة بأشخاصها ومؤسّساتها؟ وما هو موقفه من عدم احترام تفاهماته مع أعضاء مجلس محافظة كركوك؟ لماذا لم يتّخذ أيّ إجراء من شأنه العودة إلى التفاهمات التي أبرمها مع أعضاء مجلس المحافظة، ولم يلغ العملية الانقلابية غير القانونية كلّها، التي تسيئ له، وتطعن في مصداقيته وفي قراراته، وتهدّد سلم (واستقرار) المدينة، المعروف وضعها الهشّ؟ أين المحكمة الاتحادية من الخروق القانونية والدستورية، التي تجري تحت سمعها وبصرها، لتنصيب محافظ مدينة كركوك؟
يتأكّد العراقيون أنّ نموذج حكومة "الخضراء"، الذي اختاره الاحتلال الأميركي الإيراني، هو النموذج الأمثل لسحق هذا البلد وشعبه
بعد 21 عاماً من غزو العراق، ومن استمرار العملية السياسية، وبدل أن يتعلّم من يشارك في هذه العملية (من أشخاص وأحزاب) الدفاع عن العراق وشعبه ومصالحه وسيادته، يقوم واحد من أسمائها بهذه العملية ليفرش السجادة الحمراء للهيمنة الإيرانية في شمال العراق، ليؤذن معها لمرحلة جديدة وخطيرة من النفوذ الإيراني، الذي سيملأ عملياً الفراغ الذي تركه الدعم الأميركي للأكراد منذ الغزو، والذي تراجع بسبب النزاع، ومشاكل الصراع على السلطة بين الحزبيَين، والفساد المستشري، الذي ضجّ به الإعلام الأميركي قبل أشهر، ما دعا نوّاباً في الكونغرس من مؤيدي قضايا الأكراد لفكّ الشراكات معهم والابتعاد عن التوسّط، وحلّ المشكلات التي لا تنتهي، والتي كان الاحتلال الأميركي يضع لها حدّاً في كلّ مرّة.
اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، تتعرّى عملية الاحتلال السياسية، وتتعرّى أحزابها والأشخاص الذين يديرونها، يتأكّد العراقيون أنّ نموذج حكومة "الخضراء"، الذي اختاره الاحتلال الأميركي الإيراني، هو النموذج الأمثل لسحق هذا البلد وشعبه، وهو النموذج الذي تريده القوى الكبرى لكلّ دول المنطقة، لكنهم يتذكّرون أيضاً ثورة تشرين (2019)، وغليان هذا الشعب، وأنّ انفجاره القادم سيصل حتماً، ليس حتّى أسوار "الخضراء" فحسب، بل إلى ما فيها كلّه.