عندما تتآكل أوراق التوت الإسرائيلية في أفريقيا
عقوداً طويلة، سعت إسرائيل إلى ضمان عضوية مراقب في الاتحاد الأفريقي، من خلال دول أفريقية طبَّعت معها وساندتها لتحقيق مساعيها وتحريك لوبيّاتها الاقتصادية والدبلوماسية في الحواضن الأفريقية. تحقق ذلك عام 2021 عندما منحها الاتحاد عضوية مراقب، وصاغ رئيس الاتحاد موسى فكي خطاباً مطوّلاً لتبرير هذا الموقف الذي أحدَث انقساماً داخل أروقة الاتحاد، ملمّحاً إلى أن منح إسرائيل ما أرادت جاء استجابة لرغبة أكثر من أربعة أخماس الدول الأعضاء. ثم سرعان ما تحوّل كل هذا الجهد هباءً بعد أن تكشّف قناع إسرائيل ووجهها الحقيقي للأفارقة باعتبارها دولة كولونيالية، تمارس جرائم حرب في غزّة التي تواجه موتاً بطيئاً منذ 7 أكتوبر. جرَدها سقوط أقنعتها، وهي الملطخة بدماء الأطفال (أكثر من 11 ألف طفل شهيد) من عضويةٍ نالتها بشقّ الأنفس، ما يسدّ باب التسلّل الإسرائيلي إلى القارّة بشكل نهائي، بعد عقد من الجهود الدبلوماسية وسنتين من اعتماد تلك الصفة، وكأن القمّة الأفريقية أخيراً في أديس أبابا لحظة الوداع الأخير للكيان المحتلّ في أفريقيا، وفي المقابل، كان انتصاراً للقضية الفلسطينية، ما اتضح في الاستقبال الذي حظي به رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية (تتمتع فلسطين بصفة مراقب في الاتحاد منذ عام 2013) بالسجادة المفروشة بالورود الحمراء والتصفيق الحارّ من الأفارقة، تأكيداً على أن نضال فلسطين أشبه بنضالات دول أفريقيا ضد الاستعماريين والغُزاة الأوروبيين.
حضرت القضية الفلسطينية بكل ثقلها في القمّة الأفريقية التي عنونت هذه السنة بـ"تعليم أفريقي يواكب القرن الـ21"، بدءاً بمنع مشاركة وفد إسرائيل قبل انطلاقتها، محاولاً ترتيب لقاءاتٍ مع الزعماء الأفارقة، بحثاً عن غطاءٍ وتبريراتٍ لعدوانها الهجمي على سكّان غزّة، لكن الردّ كان صاعقاً بمنع وفدها من حضور القمة، ثم إصدار قرارٍ بتجميد صفتها مراقباً في الاتحاد الأفريقي، والتأكيد على أن ما يرتكبه نظام الأبارتهايد الإسرائيلي في غزّة فاق كل التصوّرات والتوقّعات. وقد وصف رئيس الاتحاد الأفريقي موسى فكي ما تتعرّض له غزّة بالإبادة الجماعية، وهو الذي صاغ هندسة مشروع تمرير عضوية إسرائيل مراقباً في الاتحاد، وبرّر آنذاك أن 44 دولة أفريقية تقيم مع إسرائيل علاقات دبلوماسية وأن 17 سفارة و12 قنصلية لدى دول الاتحاد مفتوحة في تل أبيب، ولهذا لا مناص من منحها صفة المراقب، لكن التحوّل طرأ على المدارك الأفريقية عندما عرّت إسرائيل نفسَها بجرائمها البشعة، ما دفع أعضاء القمة الـ37 إلى دعم القضية الفلسطينية والتنديد بالجرائم الوحشية التي تمارسها إسرائيل بحقّ سكّان غزّة، بصمت دولي وبمباركة أميركية ومشاركة غربية وخذلان عربي عجز عن فعل شيء، حتى ولو بتعليق الاتفاقيات الأمنية مع الكيان المحتل.
مثل ما بدّدت عملية طوفان 7 أكتوبر رياح التطبيع مع تل أبيب، نسفت أيضاً جهود إسرائيل والدول المطبّعة معها والمؤيدين لها داخل الاتحاد الأفريقي من أجل مزاحمة القضايا الأفريقية والتسلّل إلى عمق أفريقيا، وأحيت كذلك القضية الفلسطينية في البيت الأفريقي، من خلال دعم موقف جنوب أفريقيا، المؤيد للشعب الفلسطيني والمناهض لإسرائيل، في تقديم طلب إلى محكمة العدل الدولية لوقف الإبادة الجماعية في غزّة، ما عبَّر عن إجماع الأفارقة على إدانة الجرائم الإسرائيلية مع تصاعد حدّة التوتر والتهديدات باجتياحها مدينة رفح (جنوبي القطاع)، ما يُنذر بتوسع دائرة الانتهاكات الإسرائيلية ضد المدنيين العزّل، في حين يواجه سكّان شمال قطاع غزّة موتاً بطيئاً نتيجة الجوع بعد منع دخول المساعدات الإنسانية ونفاد الكميات القليلة من الطعام، وهو ما تعتبره القيادات الأفارقة مؤشّراً خطيراً يهدّد حياة مليون ونصف مليون من أهالي القطاع.
الحلم الذي راود الإسرائيليين منعَّمين في خيرات أفريقيا وثرواتهم تحوّل، في طرفة عين وانتباهتها، إلى أحلام اليقطة
لم يعد سرّاً أن العلاقات الإسرائيلية الأفريقية قبل "طوفان الأقصى"، وانجرار دول عربية وراء موجات التطبيع مع الكيان المحتل، تنامت كالنار في الهشيم، ولخّصت هذه الحال مقولة رئيس وزراء الاحتلال، نتنياهو، "إسرائيل ستعود إلى أفريقيا بشكل كبير"، في خطاب له في العاصمة الأوغندية كمبالا عام 2020، لكن الحلم الذي راود الإسرائيليين منعَّمين في خيرات أفريقيا وثرواتهم تحوّل، في طرفة عين وانتباهتها، إلى أحلام اليقطة، ولم تنجح جهود وفدها إلى أديس أبابا، المؤلف من المدير العام لوزارة الخارجية ياكوف بليتشتين، والمديرة في قسم إدارة أفريقيا آميت باياس، لمنع الأفارقة من إصدار قرار يشجُب انتهاكاتها والولوج إلى قاعة القمّة، التي حملت دلالاتٍ أكثر ومعاني أوسع، ذلك أنها ضمّت وفوداً ورؤساء من دول خارج الاتحاد، يتقدّمهم الرئيس البرازيلي إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي قال للصحافيين: "ما يحدث في قطاع غزّة مع الشعب الفلسطيني لم يحدُث من قبل في التاريخ"، قبل أن يستدرك "في الواقع، سبق أن حدث بالفعل حين قرّر هتلر أن يقتل اليهود". وأغضب هذا الاستدراك الإسرائيليين باستدعاء السفير البرازيلي في تل أبيب ليُبلغ رئيسه دا سيلفا أنه شخصية غير مرغوبة في إسرائيل حتى يتراجع عن موقفه، ووصفت حكومة الاحتلال تعليقات رئيس دولة سادس أكبر اقتصاد عالمي بالشائنة والخطيرة. وتعكس هذه الواقعة مدى تآكل حضور إسرائيل، وتراجعه رسمياً أمام الدول لترويج فظاعاتها وجرائمها بحقّ سكّان غزة وتبرير مواقفها لأصحاب الضمائر الحيّة التي لم يصبها الوهن ولا العجز، حتى عن التعبير عن مواقف جادّة وصادقة ضد العدوان الإسرائيلي، خمسة أشهر.
يبدو أن انكشاف التيه الصهيوني في حسم معاركه العبثية في غزّة يعرّي أكثر صورته البشعة وجرمها الإنساني الفاضح. وفي مقابل ذلك، تتصدّر القضية الفلسطينية المشهد الأفريقي ليعكس حقيقة تآكل أوراق التوت الإسرائيلية في أفريقيا وتراجع مكانتها. وليس هذا موقفاً طارئاً بل نتيجة تراكم صور الموت الفلسطيني في الذاكرة الأفريقية منذ عقود، ما دفع الرئيس الكيني وليام روتو، الذي يعدّ من أبرز أنصار إسرائيل الأفارقة، إلى التراجع عن تصريحاته المؤيدة للصهاينة في بداية العدوان على غزّة، معبراً عن موقفه المؤيد لفلسطين وتأييده حلّ الدولتين، تأثّراً بالضغط الداخلي لمسلمي كينيا المطالبين بقطع العلاقات مع إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلي.
في النهاية، يلخّص موقف جنوب أفريقيا ضد العدوان الإسرائيلي، وكيف استطاعت أن تجرؤ على المطالبة بمقاضاة إسرائيل في محكمة العدل الدولية، الانحياز الأفريقي الكامل للقضية الفلسطينية ومناهضة دولة الاحتلال، فكلما تمادت إسرائيل في جرائمها ضد الإنسانية تعرّت حقيقتها أكثر، بل يعدّ تطهير غزّة من سكانها سابقة تاريخية تتعارض مع المبادئ والقوانين الدولية، والأنكى إعلانها المتكرّر جهاراً نهاراً أنها ماضية في ترتيب إبادة جماعية جديدة ضد سكان مدينة رفح، وتهدّد جيرانها (لبنان) أنها ستحوّلهم إلى غزّة أخرى، وذلك أمام عجز عربي في كفّ إسرائيل عن بطشها وتماديها في تهجير سكان غزّة بآلة القتل والجوع.