علي جعفر العلّاق ... الحياة والقصيدة معاً
أتصفّحه بين يديّ كتاب "إلى أين أيتها القصيدة؟ ... سيرة ذاتية" (الآن ناشرون وموزّعون، عمّان، 2022)، ونيّتي مؤكّدة بقراءته بعد أيام. ثم دقائق، تقع عيناي على خبر فوزِه بجائزة الشيخ زايد للكتاب فئة الآداب، من صفحة صاحبه الشاعر العراقي، علي جعفر العلاق (78 عاما)، حيث ينقل ما رأته الهيئة العلمية للجائزة إن "الكتاب سيرةٌ لتجربةٍ شعريةٍ نلمس فيها طبيعة العلاقة بين الشاعر وقصيدته، فضلاً عن التفاعل مع الواقع الثقافي العراقي والعربي، على امتداد نصف قرن". وإنه يصدُر "عن رؤيةٍ فكريةٍ واضحة لشاعرٍ يقدّم تجربةً جديدةً منفتحةً على الآخر"، و"عن لغةٍ ذات مستوياتٍ أسلوبيةٍ راوحتْ بين الشعريِّ واليوميِّ تنسجمُ مع تقنيات فنّ السيرة". ولمّا كنتُ شغوفا بأدب السيرة وفنونِها وسُرودها، وجدتُها شجاعةً من ناس الجائزة السخيّة أن يمنحوها لكتابٍ في السيرة الذاتية (فعلوا مثل هذا سابقا مرّة). ولأن يقينا فيّ إن العلّاق يُبهِج قارئه من فرط ما عليها لغتُه من دفءٍ ورهافة، شاعرا أو ناقدا أو جوّالا في غير شأن، جاء إلى بالي إنها مصادفةٌ طيبةٌ، الجائزة فيما الكتاب بين يديّ، وإن من الحُمق تأجيل قراءته، للتعرّف أكثر إلى شخص علي جعفر العلاق الذي يُشيع اللقاء به فائضا من الدّعة والارتياح، والاطمئنان إلى كاتبٍ صادقٍ وممتلئٍ بنبرته الخفيضة وثقافته الرحبة، على ما اسشتعرتُه منذ تعرّفي إليه في مهرجان جرش صيف 1985 ثم في لقاءاتٍ وجلساتٍ بلا عددٍ في بغداد وصنعاء ودبي والدوحة وعمّان.
كتابٌ فيه كثيرٌ من شخص صديقنا الشاعر والناقد والأستاذ الجامعي: الألفة مع الأشياء والأمكنة، الشغف بأسئلة الشعر وشواغله الجمالية وحسب، والاكتفاء بالقول الدالّ والمكتفي بإيحاءاته، البعد عن التعالم والادّعاء والاستعراض، محبّة الناس والأصدقاء والتنويه بشمائلهم. وهذه وغيرُها من بعض سجايا العلّاق، صاحب القصيدة المعتنية بنفسِها فقط، رئيس تحرير مجلة الأقلام العراقية سنواتٍ، والتي أتذكّر هنا نشري فيها مقابلةً مع أستاذنا كمال أبو ديب (عام 1985)، المجلّة التي أحرزت لنفسها موقعا طيّبا بين المجلات الثقافية العربية. وجاء بالغ الأهمية أن تقرأ في السيرة بين يديك "حين يكون نظام الحكم، أيّ حكم، صارما إلى حدٍّ مبالغٍ فيه، فليس من المُستطاع أن تنضُج في الهواء الطلق مجلةٌ ذاتُ منحىً مستقلّ تماما، في تطلّعاتها الجمالية أو الفكرية". وللحقّ، ظلّ شاعرُنا نظيفا ومحترِما نفسَه ووفيا لقصيدته في عهد "البعث" في بلده. ومن البديع في كتابه الرائق إنه لم ينشغل بقصة هذا النظام وسطوته في العراق السابق، على أن للإحالات المقيمة بين المجاز وغير المجاز، بين الواقعيّ والمجرّد، قيمتها العالية، عندما يرمي الحقيقةَ غير مخرومةٍ أبدا هذا المثقف النبيل بشأن الذي عبر إليه بلدُه بعد خلع "تمثالٍ طويل القامة صارم القسمات". يكتُب "ذات فجرٍ بارد، وشديد القسوة، ضاق الحبل الغليظ على الرقبة، واختلطت نكهة العيد بالدم النافر من عنق التمثال. قبل تلك اللحظة بسنوات، وفي فجر دموي آخر، من عام 2003، عبرت الجسر دبّابتان متجهمتان متجهتين إلى جانب الرصافة إيذانا بانهيار البلاد على أهلها، وكانتا تقصدان ساحة الأندلس تحديدا". ويروي عن لقاءٍ يتيم بـ"السيد النائب" في منتصف السبعينيات من أجل شكواه على شخص، فانتصفَ له، لا إلى حكم قضاءٍ خائف.
كتابٌ في سيرة القصيدة، في تغريبة الشاعر، وارتحالاتِه من قريته من أرياف محافظة واسط، إلى بغداد، إلى جامعة أكستر، إلى صنعاء للتدريس في جامعتها، إلى جامعة العين، إلى لندن. مع أحاديث عن الأب وفقدِه، والأم التي "كم تحمّلت، وبحبّ عميق، خشونته وتعدّد زوجاته ومرضه المبكّر"، وعن أسفارٍ أولاها إلى دمشق وبيروت. وأحاديث عن القاهرة التي أوّل ما يواجهك فيها "شعرية الحياة". وأحاديث عن جابر عصفور وخيري منصور ومحمد عفيفي مطر وحاتم الصكر وأدونيس وعبد العزيز المقالح وأصدقاء آخرين، وعن أول قصيدةٍ للشاعر ينشرُها له جبرا إبراهيم جبرا في 1964. وذلك كله بعد سردٍ شائقٍ، حسنٌ أنه أخذ صفحاتٍ عديدة، عن الطفولة في القرية. قد يأتي إلى بالك أن تشتهي لو أن السير الذاتية تتوقّف عند الصبا الأول، عند الإحساس البِكر بالطبيعة والموجودات، فقد كتب شاعرُنا تاليا إنه لا يظنّ أن وسطا يحتفي بالنميمة والتحاسُد والولاء القائم على الشللية أكثر من الوسط الثقافي العربي (وخصوصا العراقي). وقد جاء على وشايةٍ مكتوبةٍ بخط اليد استهدفته من زميلٍ له في بغداد، على أن الكتاب يغتبط بالحياة ومباهج القصيدة والرائعين من الأصدقاء الأوفياء، وما أكثرهم.