على رصيف الموت

11 مايو 2023

(كاظم حيدر)

+ الخط -

لا تنتهي أسئلة الموت، ولا ينبغي لنا، نحن الأحياء، أن ننهيها إن استطعنا، ذلك أنها وقود البقاء على قيد الحياة، بحثاً عن إجاباتٍ بعيداً عما تقدّمها لنا فلسفات الموت وفقاً لما نؤمن به.

في كل مرة أتماسّ مع الموت، عبر موت قريب، ينهش قلبي، ويتركه نازفاً على رصيف الحياة، منتظراً مصيره في اللحاق بمن رحلوا، تراودني أسئلة الموت مجدداً، رغم وفرة ما أعددتُه لها من أجوبةٍ، سرعان ما تتهاوى تحت وطأة اليقين الأبدي.

ولأنني أصبحت أعيش تلك اللحظات كثيراً، أجدني واقفةً على الرصيف المُفضي إلى النهاية على استعداد لتلويحة الوداع، لكنني أفشل دائماً في المهمة المتوقّعة، فمن خصائص الموت الجليلة أنه يأتي خاطفاً مفاجئاً، وإن وقفنا حول أسرّة المحتضرين انتظاراً له!

الموت... الكلمة التي تبدو لنا مجلّلة بالسواد دائماً، تتخلّى عن وسيلتها في القلق تدريجيا كلما اقتربنا منها، فما إن نفقد أحد أحبّتنا حتى نخطو نحو ذلك السواد، لنندغم فيه، بحثاً عن ضوء ما في آخر نفق من أنفاق الحياة.

يقول محمود درويش في جداريته الشعرية: "لا شيء يبقى على حاله/ للولادة وقت/ وللموت وقت/ وللصمت وقت…/ كل نهر سيشربه البحر/ والبحر ليس بملآن/ كل حيٍّ يسير إلى الموت/ والموت ليس بملآن...". ويمضي إلى موته مطمئناً، مسوّراً بسورة الرحمن في القرآن كما تمنّى، ليترك سؤال الموت مفتوحاً في قصائد الشعراء دائماً، لا باعتباره سرّاً، بل باعتباره حقيقة لا يمكن تجاوزها، حتى باحتمالات الشعر المستحيلة ولا بمجازاته العالية.

الموت إذاً هو الحد الأقصى لحياتنا على هذه الأرض، كما يبدو لنا في فهمنا الأول والأخير أيضاً، وهو الواقع الذي لا يمكن تجاوُزه مهما بلغ بنا التفكير خارج إطار ما نؤمن به جميعاً. ذلك أنه الحقيقة التي لم يستطع أحدٌ أن يشكّك فيها رغم كلّ غابات الشك التي مرّ بها الإنسان منذ تاريخه الأول.

وإذا كانت فلسفة الموت إحدى أهم الفلسفات التي تمسّ تجربتنا الإنسانية، وتعتبر الزاوية الأخيرة فيها دائماً، فإننا، لذلك، نستطيع اعتبار الموت، ويا للمفارقة، جزءاً من الحياة نفسها، تفضي إليه، ويفضي إليها أيضاً. ولهذا، يمكن استثماره أداة لتحسينها نفسياً على الأقل.

وعندما ندرك أن الموت أمرٌ لا مفرّ منه، ولم ينجُ منه أحد، نبدأ في التفكير في كيفية الوقت المحتوم لنا على هذه الأرض، قصُر أم طال، وفقاً لحسابتنا الدنيوية. فنحاول العيش بطريقةٍ أفضل تحاشياً لما بعد النهاية الحاضرة. وربما لهذا نبدأ إنتاج الأسئلة التي لا تنتهي حول مفردة الموت معنى ومبنى، لعلنا ننجو من مصيرٍ مخيفٍ في شكله الأولي: ما الموت؟ ما تأثير الموت على الحياة؟ وهل يمكن تجربة الموت فيها؟ هل يمكن أن يكون الموت نهاية الحياة وحسب؟

هل يمكن، وفقاً لذلك، أن يكون مصدراً للإلهام والتحفيز في ما نواجه من مشكلات ونحن نمضي في الطريق إلى النهاية؟ كيف تنتهي الحياة المفردة للمرء بكلّ ما زرعه وحصده وامتلأ به من معارف ومشاعر وأسئلة وأجوبة وكلمات بمجرّد أن تحين تلك اللحظة الخاطفة، فلا تنتهي حياة المرء وحدَه، بل تموت معها كل حمولته المعرفية والعاطفية فيها؟ كيف يمكننا تحويل الموت، بكل تفاصيله الحاضرة دائماً، إلى مشروع حياة حقيقي، بعيداً عن فكرة الحزن، وتفاصيل الشعور بالفقد وأذاه؟

هناك مزيدٌ من أسئلة تراود اليقين، ويراها المؤمنون مما يجرح إيمانهم، لكنها، في أيّ حال، موجودة، لتعزّز ذلك الإيمان وتصفّيه من شوائب الغرور بالمعرفة دائماً ... وكلّ نفسٍ ذائقة الموت.

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.