علاقات عابرة بسرعة الصاروخ
تنقلتُ، منذ بداية الحرب الطاحنة على غزّة، بين عدّة أماكن وبيوت، وفي كل تنقّل، الذي أطلق عليه مسمّى النزوح، لأنه يحدُث قسراً لا طوعاً، فأنا ألتقي بأشخاصٍ لم أكن لألتقي بهم لو بقيت في بيتي المعلق بطابق علوي في تلك البناية العملاقة في وسط مدينة غزّة، وحيث لم يتقرّر بعد العيش فيها عامين كاملين، أن أقيم علاقة مع البشر من حولي أكثر من تحيّة عابرة، وإيماءة رأس، وابتسامة تلتوي وتنتهي على زاوية فمي.
ولكن حياة النزوح أجبرتني ووضعتني في علاقاتٍ عابرةٍ وسريعة وقد شبّهتها بالصاروخ، ويبدو أن بؤس حياتنا قد ترك أثرا على مصطلحاتنا، وصرنا نتحدّث من واقع ما يدور، ولأنه واقعٌ مؤلم، لم أجد تعبيراً أدقّ من سرعة تلك العلاقات سوى مقارنتها بسرعة الصواريخ التي لا تتوقف حولنا، وإلى درجة أنها تلاحقنا في كوابيسنا، وهناك كواليس صحْونا، فارتطام باب، أو انفجار إطار سيارة مسرعة فوق رصيفٍ ضيق، يجعلنا ننتفض ونعتقد أن الصوت ناتج عن سقوط صاروخ، ويجعلنا ننتظر تبعات ذلك من صراخ وأنقاض وغبار وشظايا وأشياء كثيرة تتطاير حولنا أسوأها الأشلاء البشرية.
هنا في رفح، وحيث النزوح القسري لغالبية سكّان القطاع، استقرّ بي المقام هذه المرّة في غرفة مؤجّرة، فتبدل الحال، حيث حللتُ لما يقارب الشهرين في مدينة خانيونس ضيفة، وكان نصيب عائلتي غرفة واحدة انتقلت كل أوصافها إلى هذه الغرفة التي أصبحت أدفع مالاً مقابل أن يغلق بابها علي وعلى أولادي، وأن ننتفع بحمام ملحق بها منحنا خصوصيةً كنا نتوق إليها، وبعثت بعض الراحة لدينا، حتى علّقت صغيرتي بغمزة ساخرة وحزينة من إحدى عينيها المتعبتين الملفوفتين بهالات قاتمة، حيث قالت: المال يتكلّم في الحرب يا أمي.
بالقليل من المال، امتلكنا غرفة وصارت لنا علاقات عابرة مع عائلتين في غرفتين متجاورتين، واقتربت منا عائلة مكونة من رجل وامرأتين وطفل وليد. ومع الوقت، وضعتُ يديّ على قصة محزنة لزوجة عقيم قررت تزويج زوجها بأخرى بعد سنوات انتظارٍ طويلة، وحب يحاول أن يبقى، رغم عدم وجود طفل يرجوه الزوج بشدة، وتحت إلحاح كل من حوله، وشاءت الأقدار أن يأتي الحلم في ظل كابوس الحرب.
بعين الخبيرة بالزمن والبشر، بتُّ أتفهم تركيبة هذه العائلة التي فقدت بيتها في شمال غزّة وقد قسمته على صغر مساحته الزوجة الأولى، لكي يصبح مطرحيْن لزوجتيْن، ولكن يوم أن حطت الزوجة الجديدة في النصف الآخر من البيت، شعرت الزوجة الأولى بأن الحياة لن تعود كما كانت، وقالت واصفةً ما حدث أنها شعرت بأن البيت قد انهار فوق رأسها، ولذلك لم تتألّم كثيرا حين انهار فعلا وأصبح كومة من الأنقاض، وعللت ذلك بأن البيت هو الأمان والاستقرار والدفء الصادق، ويمكن أن ينهار هذا كله من دون أن تقصف الجدران بصاروخ.
بسبب شعوري بوجع هذه المرأة التي لم تستطع الخروج من بوتقة أن الأنثى لا تكون كذلك من دون أن تحمل وتلد وترضع، فقد ربطتني علاقة سريعة كسرعة الصاروخ مع هذه المرأة التي لن تقوم بمهمة بيولوجية عظيمة في نظرها، والتي تحاول أن تكون أمّاً لابن زوجة زوجها. وأشفقتُ عليها، وهي تكتشف يوماً بعد يوم انسحاب زوجها نحو أم الطفل، وأنها عاشت في وهم الحب الذي لا ينتهي ولا يموت، وأن المرأة قد تكون عابرةً في حياة الرجل الشرقي الذي يهمّه الولد قبل الحب، لأن الولد يعني مفاهيم كثيرة، ويعزّز ثقافة الوجود الذكوري، وهذا ما يلمسه مجتمعٌ فقيرٌ في غزّة ما زال يرى الولد عزوة، رغم أن الأب قد لا يجد قوت يومه، ولكنه يفتخر بطابور ذكورٍ من صلبه يسيرون خلفه، حين يزور أقاربه مثلاً في المناسبات والأعياد، وإن كان خالي الجيوب. ولذلك، قالت لي بمزاح موجع إن زوجها وشريك أكثر من 15 عاما ينسحب من بين أصابعها بسرعة الصاروخ.