عقلنة الزمان .. والتاريخ
كان أستاذنا المرحوم هاشم ياغي يُوجز الثّورة الكبرى الّتي أحدثها الإسلام في الحياة العربيّة بالقول: "الإسلام فتَحَ للعربيّ في المكان، فأخرجه من جزيرة العرب؛ ليرى الأمم الأُخرى وحضاراتها ونُظمها في المعيشة والاجتماع والفنّ، وفتَحَ له في الزّمان حين قرّر له أنّ ثمّة حياة أُخرى تعقب الموت. هكذا انطلق العقلُ العربيّ من عقال المكان؛ فاتّسعت الدّنيا أمامه، ومن عقال الزّمان؛ فأصبح الموت عنده بداية لحياة جديدة".
ليس هذا وحدَه، بالتأكيد، ما أنتجته المفاهيم الجديدة في حياة العربيّ حينها، لكنّه جسّد أفقًا لحركته واسعًا، وغيّر نظرته إلى الكون من حوله، وإلى نفسه أيضًا. وهذا تحديدًا أهمّ مُقتضيات التّحوّل في أنماط التّفكير السّائدة على المستوى الجَمْعيّ، والفرديّ أيضًا. بذَيْنِكَ معًا: الفَتْح في المكان، والفَتْح في الزّمان، انتهت النّظرة إلى الموت بصفته "مُفْسِدًا للحياة" كما قال شاعرُهم: "لَقَدْ أَفْسَدَ المَوْتُ الحَيَاةَ، وقَدْ أَتَى / عَلَى يَوْمِهِ عِلْقٌ إِلَيَّ، حَبِيبُ". وداعيًا إلى الامتلاء حدَّ الغرق بمُتَعها ولذّاتها في مواجهة الفناء؛ أي: ذهبت حتميّة الفناء الكلّيّ إلى غير رجعة، وانفتح التّفكير على المستقبل المفتوح بلا حدود حدَّ الخُلود. وقد لا نملك تفسيرًا مقاصديًّا سوى هذا للحديث الشّريف (مسند أحمد، ط: الرسالة: 20/ 251): "إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ القِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ، فَلْيَغْرِسْهَا".
أخطر ما أصاب العقليّة العربيّة، وارتهنها تمامًا، هو رزوحُها تحت أثقال الماضي، بكلّ ما فيه، وتخيُّلها الرّاسخ أنّ الماضي بكلِّه خيرٌ من المستقبل بكلّه
يتراءى المشهدُ العربيّ كُتلة صمّاء عصيّةً على الاختراق نحو هذين الأُفقين: المكانيّ، والزّمانيّ، إلّا برؤيةٍ ضيّقة تحاصرها: القُطْريّة، والطّائفيّة، والمذهبيّة، والإثنيّة، والعشائريّة، والحَمائليّة، والحزبيّة، والتّشريقُ والتّغريب، حائلةً دون تحقُّق أمّة العرب، مع أنّ نبض الشّعب والشّارع ميّال إلى نبذ كلّ ما من شأنه أن يُعيق تحقُّقها. وإلّا بالتّهجير والتّشتيت القسْريّين، والهجرة والاغتراب الاختياريّين في الظّاهر الجَبْرِيَّين في الواقع بحثًا عن فرص الحياة. وإلّا في فورات الغضب الّتي نشهدُها بين الحين والآخر، حين تُمسّ الصّدوع الاجتماعيّة والخطوط الحُمر والزُّرق، فترى الوقوفَ في خنادق الانتصار للذوات المصطنَعة المتخيَّلة بين شعب وجاره، أو مكوّن اجتماعيّ وآخر في البلد نفسه، بسبب نزاع حدوديّ، أو خلاف بين حُكْمَين، وحتّى بسبب لعبة كرة قدَم بين فريقين. وفي هذا لا تكاد النُّخب تختلف عن الشّعبويّات.
لكنّ أخطر ما أصاب العقليّة العربيّة، وارتهنها تمامًا، هو رزوحُها تحت أثقال الماضي، بكلّ ما فيه، وتخيُّلها الرّاسخ أنّ الماضي بكلِّه خيرٌ من المستقبل بكلّه، وأنّه لم يكن، والأدهى لَمْ يَعُد) بالإمكان أحسنُ ممّا كان. فكرتان متخيَّلتان راسختان، أولاهما تسبّب انفصامًا عن الحاضر (المتغيّر دائمًا بالمناسبة، فهو في كلّ لحظة جديدة حاضر) الّذي لا شيء فيه يُقارَن بالماضي إلّا بوصفِ "أسوأ"، والأُخرى تسوّغ كلّ ما في الماضي بعقليّة تبريريّة تجميليّة تبحث دائمًا عن المعاذير لكلّ الماضي بمن فيه، وبما فيه. هكذا، أصبح الماضي هو الكتلة الصّمّاء الصّلبة الّتي تحول تمامًا دون أيّ مستقبلٍ، بل حتّى تطلُّع إليه. وهكذا، انغلقت العقليّة العربيّة عن أيّ ممارسة عقلانيّة نقديّة للماضي، بكلّ من فيه، وبكلّ ما فيه، وصار النّظر فيه، حَسْبُ، لتكريسِه وتقديسِه وإعادة تأسيسِه وإنتاجِه في الحاضر، بصفته المنجاة الوحيدة الممكنة من راهنٍ سيّئ، ومستقبلٍ سيزداد سوءًا (بالتأكيد وفق هذه النّظرة).
ثمّة كُتلة شديدة الصّلابة، وضخمة جدًّا، تقف سدًّا منيعًا أينما التفتَّ، والحاجة الحقيقيّة للتّغيُّر تبدأ من تحوّل وجهة التّفكير من الماضي إلى الحاضر والمستقبل
لكن، تعودُ إلى تلك "الفَسِيلَة" من جديد، وتجدُ الفكرة الّتي تؤشِّرها غايةً في الاختلاف مع هذا الانغلاق والانكفاء الصُّلبَين. وتعود إلى مثل قول عليّ بن أبي طالب: "لا تُكرهوا أولادكم على أخلاقكم؛ فإنّهم خُلِقوا لزمانٍ غير زمانِكم"، وإلى مثل قول أبي إسحاق الغَزِّيّ: "مَا مَضَى فَاتَ، وَالمُؤَمَّلُ غَيْبٌ/ وَلَكَ السَّاعَةُ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا"، وكثير غير هذا، فتجد أهل هذا "الماضي" كانوا مختلفين تمامًا في نظرتهم إلى وجودهم، وإلى أنفسهم، وإلى الحياة من حولهم. كانت حركتُهم في الواقع تسعى أمامًا، وإذا ما التفتَتْ خلفَها فإنّما لتتأمّل وتنتقد، وتُعيد تأسيس نفسها في الواقع وفق مقتضيات حاضرها ومعطياته، غيرَ منبتَّةٍ من قيمها العُليا وأخلاقها.
اعتياصُ الحاضر، وانسداد آفاقه، يبدوان مترتّبين على هذا الانغلاق، وذلك الانكفاء، أكثر من ترتُّبهما على أيّ شيء آخر. ثمّة كُتلة شديدة الصّلابة، وضخمة جدًّا، تقف سدًّا منيعًا أينما التفتَّ، والحاجة الحقيقيّة للتّغيُّر (قبل التّغيير) تبدأ من هنا؛ من تحوّل وجهة التّفكير من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، ووجهة الانشغال كذلك، بدلًا من "لا بُدّ من العودة إلى الماضي؛ لنكون قادرين على عيش الحاضر والمستقبل". وهذا يحتاج تأسيسًا إلى الانفتاح على هذين بكلّ شجاعة وجرأة، كما الانفتاح على الماضي بكلّ شجاعة وجُرأة بعقل نقديّ واعٍ قادرٍ على تلمُّس كلّ ما هو مُشرق فيه، وتبيُّن كلّ مُظْلِم فيه أيضًا. وليست البُغية إلى رصد مساوئ الماضي بكلّ ما فيه، والتّنافس في تسجيلها ونشرها، والتّسابُق على تشويهه وطمسه، إنّما في الانعتاق من كلّ ظلاله الثّقيلة الوطأة على الحاضر، وهي ظلالٌ تاريخيّة؛ نشأت في التّاريخ في ظروفها الخاصّة، وبين أُناس عاشُوا في التّاريخ في ظروفهم ووفق معطَيات عصورهم، والعصبيّة والطّائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة والعشائريّة جزءٌ من تلك الظّلال الثّقيلة، وهي مرفوضةٌ دينًا كما هي مرفوضة بحسب مقتضيات الحاضر. هذه الشُّروخ الّتي أحدثتها الخلافات السّياسيّة والقبائليّة والمناطقيّة في الماضي ستظلّ حجرَ العثرة الأكبر، المانعَ من تحقُّق أمّة العرب حتّى بمفهومها الثّقافيّ.
يمكن التّمييز بين اتّجاهين نقيضَين؛ أوّلهما يسعى إلى نقل الأمّة من مرحلة العيش الخياليّ الواهمِ في الماضي. والآخر الّذي يسعى لتكريس "أحَدِيَّة" الماضي
ليس بالضّرورة أن نكون حداثيّين، فنقطع مع تاريخنا وتراثنا كما فعلت أممٌ أُخرى؛ لكي نحقّق وجودنا ونسعى إلى مشاركة أمم الدّنيا شيئًا من البناء الحضاريّ المدنيّ الإنسانيّ، ولكن لا ينبغي لنا، بالضّرورة أيضًا، أن نكون ماضويِّين فنقطع مع حاضرنا ومستقبلنا. في الحالين، سنفقد جوهرًا مهمًّا، وفي كلتيهما أيضًا سيظلّ هذا (الاغتراب/ الانفصام غير الحضاريّ) ملازمًا لنا في صيغتنا الجمعيّة، حتّى وإن تفلَّت منه أفراد هنا، أو مؤسّساتٌ هناك.
وما نحنُ بصَدَدِه يحتاجُ إلى جهدٍ كثير، وفَيضٍ من العمل والتّخطيط الدّائبين، على مستوياتٍ كثيرة؛ من التّعليم إلى الإعلام، ومن البُحوث والدّراسات إلى التّربية، ومن المنتَديات والمؤسّسات إلى المجالس والدّيوانيّات. لكنّ الخطوة الأولى تكمنُ في مواجهةِ الأفكار التّبريريّة التّجميليّة، الرّافضة كلّ حركةٍ واعية للعقل النّاقد، الّتي لا تنفكُّ تلجأ إلى الاتّهامِ بالمُروق، والزّندقة، والهرطَقة، والانتماء إلى الآخر كائنا من كان، والتّخريب والتّغريب الثّقافيّين. وهي أفكار تعمل، عن وعيٍ، أو جهلٍ، أو غباء، على تكريس تخلُّف الأمّة وتفكُّكِها وتناحُرِها، وفقدانِها بالتّدريج طاقاتِها الكامنةَ اللّازمة لتحقُّقها بالفعلِ. بهذا الفهمِ، يمكن التّمييز بين اتّجاهين نقيضَين؛ أوّلهما يسعى إلى نقل الأمّة من مرحلة العيش الخياليّ الواهمِ في الماضي؛ لأنّه مستحيلُ التّحقُّق أصلًا، ويُخالف كلّ منطقٍ عقلانيّ، ولأنّه كان خضعَ لظُروفٍ موضوعيّةٍ وأشراطٍ اجتماعيّة ودَوليّة وبيئيّة وثقافيّة ساعدَت على تحقيقِه، إلى مرحلة العيش في الحاضر المتحقّق، والسّعي إلى المستقبل الّذي تتحقّق فيه الأمّة واقعًا، بوضعِ ذلك/ هذا الماضي (الممتدّ أصلًا فينا) أمام العقلِ النّاقد؛ ليدرسه ويستخلصَ منه العِبر، ويمارسَ في حقّه حركة نقديّة عميقةً تكشفُ عن اختلالاته، كما تُبِين مواطن القوّة والتّنوير فيه. والآخر الّذي يسعى لتكريس "أحَدِيَّة" الماضي، بصفتِه المِثال الّذي تنبغي العودةُ إليه، واستعادتُه واستحضارُه في الحاضر، ورفض كلّ تفكير أو توجّه خارج هذا المِثال. أوّلهما يتقبّل الكُلّ، ولا يستثني من هذا الكُلّ أحدًا، ولا يمارسُ أيّ شكلٍ من الإقصاء والتّهميش والرّمي بكلّ صنوف الاتّهامات، والآخرُ غارقٌ في الأُحاديّة والطُّهريّة، ولا يتقبّل شيئًا خارجَه. أوّلهما يسعى إلى توسيع الباب ليدخُل منه الجميع بصفة ذلك حقًّا للجميع، والآخرُ يملكُ مفتاحَ البابِ، فلا يُدخلُ في الدّار إلّا مَن كانَ مِنه.