عَقْلَنَة الإنسان بين فلسفات الحتميّة والقدرة على الفِعل

19 ابريل 2023

(فاسيلي كاندينسكي)

+ الخط -

ككلّ نقاشٍ جدليّ في أصول وجود الأشياء، يقفُ الجدلُ في أصل وجود الإنسانِ عاليًا بحدّة، بين رُؤيتين نقيضتين؛ أولاهُما تراه نتيجة "الخَلْق"، والأُخرى تراهُ نتيجة "الصُّدفة"، وهما رؤيتان ممتدّتان في الأديان والنّظريّات. غير أنّ هذا النّقاش لا ينبغي له أن يُهمل الواقع، واقع الوجود نفسه، وحقيقة أنّ الإنسان موجودٌ بقطع النّظر عن أيّ رؤيةٍ لأصل هذا الوجود. ويجب أن يُقرَّ الطّرفانِ بأنّ الأهمّيّة ينبغي أن تُركِّز على طبيعة هذا الوجود ومعاييره التي تُكسبُه معناه، وتحقِّق للإنسان جوهر قيمته. وما دامت المجتمعات الآن تضمّ أتباع الرُّؤيتين معًا، فلا معنى لاستمرار النّقاش الجدليّ الذي يبلغُ حدّ السّفسطة في أصل وجود الإنسان، مُتعامين عن حقيقة هذا الوجود واقعًا بما يقتضي التّفكير مليًّا في الاتّفاق على ما يمنحُ لوجوده مشروعيّة قانونيّة واجتماعيّة.

وأعجَبُ شيء في زَمانِنا هذا أن يعودَ النّاس إلى ابتِداعِ حَتميّاتٍ جديدة؛ وكأنّ الحتميّات التي انقضى زمانُها وبادت غيرُ كافية، وكأنّ النّاس قديما وحديثا غيرُ قادرين على الحياة بدونِ حتميّات: لا حول لهم ولا قوّة؛ لأنّهم عُرضةٌ لقُوى لا يستطيعونَ حِيالَها من أمرهم شيئًا، ولا هُم يقدِرون! هذا، مع اليقين بأنّ مؤمنين كثيرين بالحتميّاتِ لا يهتدونَ إلى أثر ذلك الإيمانِ في سلوكيّاتهم ومواقفهم وأقوالهم، والعجَبُ العُجابُ أن يكونَ في عِدادِ هؤلاء نفَرٌ غيرُ قليلٍ من المثقّفينَ والمتعلّمينَ، أو قُل: المتثاقفينَ والمتعالِمينَ.

وقد يُضطرُّنا البيانُ إلى التنقُّلِ بينَ الأفكار والأديانِ: السّماويّة، والوضعيّة، وبينَ النّظريّات والفلسفاتِ الاقتصاديّة والعلميّة والنّقديّة؛ وإلى الحُكم بدءًا أنّ أكثرَها يَميلُ إلى القولِ بحتمِيّات تُقيِّد يَد الإنسانِ وعَقْلَه، وتَحكُم سلوكيّاته وأفعالَه وأقواله، وتُساهِم في بِناء موقفِه وتشكيل نظرتِه إلى نفسِه، وإلى مفهومِ الحياةِ والكَونِ من الجانب الآخَر. ولعلَّ الكلامَ على فرقةِ (الجَبْرِيّة/ المُجْبِرَة) التي ظهرت في بِداياتِ حِراكِ الفكر العربيّ الإسلاميّ صالحٌ للتّأسيسِ عليهِ، وهي فرقةٌ وإنْ تَكن زالَت بِمَفهومِ الفِرقَة، فإنّ ناسِا كثيرين: العامّة، والخاصّة، ما زالوا يتمسّكونَ برُؤيَتِها للوجودِ الإنسانيّ. فالجبريَّةُ رأت أنّ الإنسانَ مَحكومٌ في كُلِّ حرَكة وسَكَنَةٍ يؤدّيها: لا شأنَ لَه بما يفعلُه ويقولُه، لأنّه مَحكومٌ في النّهايةِ بالإرادة الإلهيّة؛ هُو مُسيَّرٌ تَمامًا في كلّ شأنٍ من شُؤونِ وُجودِه، وهو بذلكَ لا يختلفُ كثيرًا أو قليلًا عن "الرُّوبوت" الذي يتحكّمُ فيه مُقتَنِيه أو مبتدِعُه عن طريقِ جِهاز التّحكُّم.

لا معنى لاستمرار النّقاش الجدليّ الذي يبلغُ حدّ السّفسطة في أصل وجود الإنسان، مُتعامين عن حقيقة هذا الوجود واقعًا

نسِيَ هؤلاءِ مجموعةً لا بأس بِها من الآياتِ القرآنيّة التي تصرِّحُ بِحُرِّيّة الإنسانِ في الاختِيار حتّى في اختيار الطّريقِ التي يُريدُها (إمّا شاكرًا وإمّا كفورًا) [الإنسان: 3]، وتَناسَوا عن قصدٍ أو غير قصدٍ (إنِّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً) [البقرة: 30]، وأهمَلوا (وسخَّر لكم ما في السّماواتِ والأرضِ) [الجاثية: 13]، وجَعَلوا الإكراهَ والحتميَّةَ بديلًا مُباشرًا لمِثلِ (لا إكراهَ في الدِّينِ قد تبيَّنَ الرُّشْدُ من الغَيِّ) [البقرة: 256]. والمشكلةُ الكُبرى التي نتجَت عن هذا التّوجُّهِ إسقاطُ التّكليفِ والتّفكيرِ والتّدبيرِ، وترسيخُ أنّ الإنسانَ ضعيفٌ لا قِيمةَ لإرادَته وجُهدِه وتفكيرِه؛ بل لقد قضَى مثلُ هذا الرّأي عندَ المؤمِنينَ به على مَناطِ تكريمِ الإنسانِ الأهَمّ، وهو: العَقلُ، الذي تروي الأحاديثُ (المعجم الأوسط للطّبراني: 2/ 235-236): "لَمَّا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ: قُمْ، فَقَامَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْعُدْ، فَقَعَدَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي، مَا خَلَقْتُ خَيْرًا مِنْكَ، وَلَا أَكْرَمَ مِنْكَ، وَلَا أَفْضَلَ مِنْكَ، وَلَا أَحْسَنَ، ..." إلى آخر الحديث.

لقد خلقَ مثلُ هذا التصوُّر للوجودِ الإنسانيّ على وجه الأرضِ تيّارًا يَرى أنّ الطّبيعةَ مُكتملةٌ، وأنّ دَور الموجوداتِ التّسخيريّ إنّما هُو لِتُفيدَ الإنسانَ من دُونِ أنْ يتدخّل الإنسانُ في إعادةِ تنظيمِها وترتيبِها وتطويرِها وتحسينِها؛ هي كلٌّ مكتملٌ لا يَحتاجُ إلى أيّ دَور من الإنسانِ لِتَجويدِه والمحافظة عليهِ، وبمثل هذا التّفكيرِ غابَت فكرةُ تَنميةِ المَواردِ الطّبيعيّة والبشريَّة عن العقلِ العربيّ مدّة طويلةً، وبمثلِه أيضًا غابَت عن العقل العربيّ مَقولةُ وَظيفيَّةِ الموجوداتِ الكونيّة مدّةً أُخرى أطول من الأولى؛ وضاعَ الهدفُ الثّاني من الوُجودِ: عمارةُ الأرضِ الذي يعنِي استِكمالَ بِنائها وتطويرها وتنميتَها وتحسين مستَوى الحياةِ عليها.

وقد تخلَّقَ من رَحِم هذا التصوُّرِ تصوُّرٌ آخَرُ مُضادٌّ له في مصدَر التّحكُّم بالإنسانِ؛ وذلك هُو القائلُ بفكرةِ سيطرةِ الشَّيطانِ الرّجيم (مقابل الرّحمن الرّحيم) على الإنسانِ، واستلابه لقدراتِه على التّفكير والسُّلوكِ والفِعلِ والقولِ؛ فظَهر القولُ بإمكانيّة تلبُّس الشّيطانِ (أو الجانّ عندَ مَن لا يفرِّقونَ بينَ الطّرفينِ) وتقمُّصِه للإنسانِ، بل دُخولِه إلى جسدِه والسّكَن في عَقْلِه، وجَعْلِه يتصرَّفُ تبعًا لِهَواهُ ورغباتِه. والمشكلةُ الكُبرى التي خلقَها مثل هذا الاتّجاه كامنةٌ في استلابِ الإنسانِ أيضًا، وجَعلِه عبدًا للشَّيطانِ؛ فلا يقدِرُ على التحكُّم بطاقاتِه وجَوارحه وعقلِه، لأنّها مملوكةٌ لغيرِه، وكلُّ ما يأتي به لا دَوْرَ له فيه سِوى كونِه آلةً تُنفِّذُ ما يأمرُها به الشّيطان.

الحتميّاتِ عندَ الإنسانِ الحديثِ أكثرُ من الحتميّاتِ عندَ البشرِ قديمًا

هكذا، تفقد الحَوادث أسبابها الموضوعيّة الواقعيّة، وتُضحي إمكانيّة تغييرِها ودَرْئِها ضربًا من العبَثِ والتّجديف، فلا دَوْرَ للعقلِ في رَسمِ الخطط ووضعِ الاستراتيجيّات لتحقيقِ أهدافٍ مرسومة، أو تَلافِي أخطارٍ مُحْتَمَلة؛ لأنّ كلَّ ذلكَ رَهْنٌ بإرادةٍ عُلْيا فَوْقَ طاقةِ الإنسانِ. وأمامَ هذا الاستلابِ والتّقهقُرِ والضّعفِ والتّخاذُلِ لَم يكُن بُدٌّ من ظُهورِ طُرقٍ واتّجاهاتٍ تُسلِّمُ أمْرَها ولا تُحاوِلُ، وتُلصِقُ كُلَّ ما يحدُثُ بغَيرِها، وتتملّصُ هيَ من تَبِعاتِ أفعالِها وحِراكِها وسُكونِها وقُعودِها، بِحُجّة أنّ ما يحدُثُ لَم يكُن ليحدُثَ لَوْ لَم يكُن مُرادًا قهريًّا عندَ هؤلاء، أو يفْرِضْهُ الشَّيطانُ عندَ أولئكَ. وهي ذرائعيّة عجيبةٌ لا يمكنُ أن تصمد أمام التّفكير العقلانيّ النّاقد.

وقد يبدو لبعض النّاس أنّ هذه التّصوُّراتِ الواهِمَة الواهيةَ بارزةٌ عندَ الشُّعُوب المتخلِّفَة (كما يحبّون وسْمَنا) حسْبُ، وأنّ شُعوبَ الأرضِ المتقدِّمة تَخلو ذاكرتُها وفلسفاتُها من مِثْلِها؛ وواقعُ الأمر أنّ الحتميّاتِ عندَ الإنسانِ الحديثِ أكثرُ من الحتميّاتِ عندَ البشرِ قديمًا، وما نراهُ الآنَ من سِيادَةِ التّبصيرِ والعِرافةِ والكهانة وقراءة الطّالع والأبراجِ، ولُجوء بعضِ كِبار رؤساء الدُّول العُظمى إلى مثلِ هذا التّهريجِ، فضلًا عن الإيمانِ بِحَتميّاتٍ مُهلِكَة، كلُّ هذا يدلُّ على أنّ الإنسانَ الحديثَ لَم يستطع الخُروجَ من رِبقَةِ (الجَبْرِيّة والحتميّة).

يذكِّرُنا كارل ماركس مثلًا، والماركسيّةُ عُمومًا، بالحتميّة التّاريخيّة، التي ترَى حتميَّةً في تَكدُّس رأس المالِ في نِهاية المَطافِ وانفجاره في آخر طورٍ من أطوار الرّأسماليّة، وانتهاء المجتَمع الإنسانيّ إلى مرحَلة من المَشاعِ المُنظَّم. وقد بُنِيَت على هذه الحتميّة حتميّات أُخرى من مِثل: حتميّة انتصار طبقة الكادحين (البروليتاريا) في الصّراع الطّبقيّ، وكَونِ الأدبِ انعكاسًا للواقعِ، وضرورةِ كَونِه خادمًا للحَياةِ (الفنّ للحياة/ الالتزام)، بمعنَى خِدمَتِه للطّبقة الكادحة في مُواجَهة (البورجوازيّة/ الأرستقراطيّة). ولعلّنا نتذكّر هُنا الحتميّة التي حاول ابنُ خَلْدون بِناءَها من أجل تفسيرِ نشأةِ الدُّوَل وانتهائِها.

ويذكِّرُنا النّاقدان التّاريخيّان هِيبوليت تِين وسانت بيف بِحَتميّة من نوعٍ آخَر مبنيّة على حتميّة عِرقيّة، ذاهبَيْنِ إلى أنّ الفكرَ والفنّ والفلسفةَ والأدبَ نتائجُ حتميّةٌ لعناصر ثلاثةٍ قاهرة التّأثير، هي: العرقُ، والبيئةُ/ المكان، والعَصْـر/ الزَّمن. ولعلّهما يُعيدانِنا نقديًّا إلى بعضِ مَقولاتِ أبي عُثمانَ الجاحظ النّقديّة أيضًا. وبمثلِ هذه الحتميّة بَنَيا على التصوُّراتِ التّوراتيّة لتقسيمِ الشُّعُوبِ، فمالا مع أرنست رِينانِ إلى تقسيمِ العُقولِ بينَ الجَماعاتِ البشريّة، وليسَ غريبًا أنْ يكونَ العقلُ العربيُّ موجودًا في آخر القائمة، في مَعنى اللاموجود، وليسَ غريبًا أنْ نَرى محمّد عابد الجابريّ يؤكّد مثل هذه الرُّؤية بعدَ هؤلاء بقرنٍ من الزّمن تقريبًا، فالعقلُ العربيّ المشـرقيّ عندَه يغلبُ عليه أن يكون "عِرفانيًّا – بيانيًّا"، في حين خصَّ المغربَ العربيّ بالعقلِ "البُرهانيّ"!

أعجَبُ شيء في زَمانِنا هذا أن يعودَ النّاس إلى ابتِداعِ حَتميّاتٍ جديدة؛ وكأنّ الحتميّات التي انقضى زمانُها وبادَت غيرُ كافية

وقد حاوَلَ فرُويْد (وتلامذتُه) استبدال حتميّة تحكُّم اللاوَعي و(الكُوجِيتو) بحتميّاتٍ أُخرى سبَقَتهُ. وبِمثلِ هذه المُحاولةِ، يُعِيدُ فرويد وتلامذتُه القدماءُ والحديثونَ أفعالَنا ووجودَنا إلى منطقةٍ بعيدةٍ عن العقلِ والوَعي والواقعِ؛ فنَحنُ محكومونَ هُنا لكثير من الذّكرياتِ المختزنة في اللّاوَعي/ اللّاشُعور، ولا دَورَ لَنا حِينَما نشبُّ ونُصبِحُ مُطالَبِينَ بالواقعيّة والعقلانيّة والحِكمة؛ لا دَور لَنا إلّا التصرُّفُ في هَدْي ما يفرضُه علينا لاوعيُنا، هذا فضلاً عن نَزعاتِنا الجنسيّة وعقد نقصِنا المركَّبة (العُصَاب) التي هي منبَعُ كلّ إبداع.

ومضَت البنيويّة بِنا شَوطًا آخَر في مَسار الحتميّة؛ فهُناكَ نسَقٌ مّا يحكُمُ كُلَّ شيءٍ في المجتَمعاتِ الإنسانيّة، بِنيةٌ واحدةٌ تتراءى في مَظاهر متنوّعة تَعودُ، في نِهاية المَطافِ، إلى مَآلٍ واحد ... ثُمّ جاءَت التّفكيكيّة لتضَعَنا أمامَ حتميّة أُخرى: لا بُدَّ لَنا من تفكيكِ كُلِّ الطَّبَقاتِ الرُّسوبيَّةِ المتراكِمة حتّى نصِلَ إلى الحقيقَة، تلكَ التي تتخفّى مع الزَّمن بفِعل الخِطاب والتّراكُماتِ اللغويّة تَمامًا كَما يحدُثُ في الأحافِيرِ. وليسَ بعيدًا عنهُما كانَ المنهجُ الثَقافيُّ الذي يجعَلُنا نلهَثُ راكضينَ وراء الأنساقِ الثّقافيَّةِ التي تسُودُ مُجتمعًا من المجتَمعاتِ، وتتبدّى في المَظاهر الاجتِماعيّة والأدبيّة والاقتصاديّة والعسكريّة وغيرِها.

وبعدَ أنْ تمكّنت مجموعةٌ من العُلَماء من الكشفِ عن الخريطة الجِينيّة للإنسانِ، ولبعض الكائناتِ الحيّة الأُخرى، بِما أعطى الفرصةَ لإيجادِ حُلولٍ لمشكلاتٍ صحِّيّة وبيولوجيّة كثيرة، بدأت تتراءى في الأفق ملامحُ حَتميَّةٍ جديدةٍ، وهي سائدةٌ بينَ بعض المثقّفينَ والمتعلّمينَ، وهي حتميَّةٌ بيولوجيّة ترى أنّنا نَتائجُ حتميَّةٌ لِما ورثناهُ من جِيناتٍ حملتها مجموعةُ الكروموسومات الآتيةُ من الحيوان المنويّ والبُويضة. والحتميّة الجديدةُ شبيهةٌ بالحتميّات المتقدّمة من حيثُ تُلغِي أيّ دَوْرٍ للإنسانِ في تَحقيقِ الصُّورةِ الاجتماعيّة والفكريّة والإنسانيّة التي يُريدُ أنْ يكونَ عليها، ولا تقلُّ عَنها خُطورةً من حيثُ النّتيجة النّهائيّة في حالة الإيمانِ بِها.

 مضَت البنيويّة بِنا شَوطاً آخَر في مَسار الحتميّة؛ فهُناكَ نسَقٌ مّا يحكُمُ كُلَّ شيءٍ في المجتَمعاتِ الإنسانيّة، بِنيةٌ واحدةٌ تتراءى في مَظاهر متنوّعة تَعودُ إلى مَآلٍ واحد

بينَ الرّحمن الرّحيم، والشَّيطانِ الرّجيمِ، والحتميّة التّاريخيّة وصراع الطّبقات، وحتميّة البيئة والعرق والزّمن، وحتميّة اللّاوعي والكُوجِيتُو والجِنس وعقد النّقص، وحتميّة البنية وتفكيكها والنّسق الثّقافيّ، والحتميّة البيولوجيّة الجينيّة... يقِفُ الإنسانُ عاجزًا؛ مُسَخَّرًا؛ لا وُجودَ لَهُ سِوى الوُجود الآليّ الميكانيكيّ، ويظلُّ على الرُّغمِ من طُغيانِ هذه الحتميّاتِ نظرَتانِ تُؤْمِنانِ بالإنسانِ وبإمكانيّاته وطاقاتِه وحُرِّيَّتِه، وهُما نظرتانِ مُتناقضتانِ: إحداهُما كلاسيكيّة، والأُخرى حَداثيّة: تلكُما هُما الدّين في صُورتِه المجرّدة، والوُجوديَّة!

وقد يكونُ غريبًا جِدًّا مثلُ هذا التّوافُق في الرُّؤية على الرُّغم من التّناقُضِ في التّأسيسِ؛ رؤيتانِ: أولاهُما تتبدّى في ما يتْرُكُ حُرِّيَّةَ العَمل للإنسانِ والمبادَرة بالفِعل، عليه أنْ يعمل وفق علاقة السّببيّة، ويخطّط ويبني استراتيجيّاته ويحدّد أهدافه ويسعى لتحقيقِها أوّلا. وتتبدّى هذه الرّؤية في التّركيز على حُرّيّة الإنسان في الاختيار والتّفكير والفِعل، وأنفتِه من أن يكون عبدًا كما في قول عُمر بن الخطّاب: "مَتى استَعبدتُم النّاس وقد ولدَتهم أمّهاتُهم أحرارا"، وقول علي بن أبي طالب: "لا تَكُن عبدَ غيرِك وقد جعلَك اللهُ حُرًّا".

والأُخرى تتبدّى في إيمانِ الوُجوديّة بأنّ الإنسانَ حُرٌّ في الاختِيارِ، ويترتّب على حرّيّته تلكَ التِزامُه بِما يَخْتارُ، ومسؤوليَّته عن ذلك الاختيار؛ ثّم المخاطَرة في سبيلِه والتّمسُّك به. إنّ هذين التصوّرين الأخيرَين هُما الكَفيلانِ بتحقيقِ قدرٍ وافرٍ من الحرّيّة للإنسانِ ليكونَ مسؤولًا أمامَ نفسه وأمامَ الآخَرينَ عن حرّيّته واختيارِه، وجديرانِ بإعطائِه الدَّوْرَ الأوّل في صُنْعِ مُستقبلِه وبِناء حَياتِه، وتحقيقِ مفهومِ إعمار الأرضِ والاستخلافِ فيها. وهما فضلًا عن ذلك يُعَقْلِنان الإنسان، ويمنحانه الفرصة للفعل وتحقيق الذّات، ولا يستلبانه وجودَه بحتميّات تُثقِل كاهله، وتنأى به عن الحقيقة الأولى لوجوده: أنّه يمتلك العقل، ويمتلك القدرة على استعماله، وعلى نقْدِ ذاتِه وتطويرها، وعلى إنجاز ما يخطّط له ويسعى إلى تحقيقه.

E7A9AC37-AB66-43D9-B348-B7B3E834CF70
E7A9AC37-AB66-43D9-B348-B7B3E834CF70
خالد الجبر
خالد الجبر