عقدة المرحلة الانتقالية في تونس

01 يناير 2023
+ الخط -

ما يجري في تونس منذ نهاية 2010 يعرض المسار الأكثر "طبيعية" للثورات العربية الحديثة. لم يغرق المسار التونسي في العنف، لم يعترضه حاكمٌ مطلق بجيشه ومخابراته وشبّيحته، فيحطّمه ويحيله إلى كارثة. ولم يقطعه انقلابٌ عسكريٌّ مستغلاً موجة احتجاج ثانية، ليعيد البلد إلى أسوأ مما كانت عليه. ولم يشهد تدخلاً خارجياً من بعيد أو قريب ويرتهن بالتالي لإملاءات ومصالح قوى خارجية متعارضة أو، على الأقل، مستقلة عن مصالح المحتجّين. على هذا، يمكن أن تكون تونس النافذة التي نطل من خلالها على مسارٍ حرٍّ لثورات الربيع العربي. ما انتهت إليه الثورة التونسية كان، إلى حد بعيد، نتيجة تفاعل العوامل الداخلية للثورة.

يسمح لنا هذا بتأمل ما ينطوي عليه المجتمع التونسي (نموذجا عن المجتمعات العربية) من قدرات ثورية ما بعد "إسقاط النظام". بكلام آخر، تسمح لنا تجربة تونس أن نختبر إلى أي حد يمكن لهذه المجتمعات أن تبني ديمقراطيةً، أو أن تنتظم في إطار نظام سياسي ديمقراطي، بناء على ما تتوفر عليه من قوى مجتمعية وسياسية، ومن استعداد هذه القوى لتبدأ بناء نظام سياسي ديمقراطي على مصالحها الحزبية.

إذا كان الإحباط من الأحزاب السياسية وصراعاتها وفشلها في تخفيف الصعوبات الاقتصادية على مدى ثماني سنوات هو ما دفع التونسيين إلى انتخاب الأستاذ الجامعي المستقل، قيس سعيّد (المعروف بعدائه للأحزاب السياسية) بنسبة تجاوزت 72%، فإن الإحجام الشعبي الواسع عن المشاركة في الانتخابات التشريعية التونسية التي نظّمها سعيد أخيرا (نسبة المشاركة لم تصل إلى 12%)، يعبّر عن إحباط تال أكثر ثقلاً، لأنه لم يعد لدى التونسيين ما يطمئنون إليه بعد أن جرّبوا الأحزاب ثم المستقلين. يمكن أن يكون هذا النوع من الإحباط مقدّمة إلى مزيد من السلبية.

تشهد المرحلة الانتقالية، نتيجة تحرير المجال العام، صراعاتٍ حزبيةً وتوترات وعدم استقرار قد يحرّض لدى الجمهور "حنيناً" إلى استقرار النظام القديم على علاته

يلاحظ أن الخط البياني لمسار الثورة التونسية يبدأ بالصعود في السنة الأولى التالية للثورة بفوز الأحزاب المعارضة للنظام القديم (أبرزها حزب النهضة) في أول انتخابات برلمانية حرّة، ووصول شخصية معارضة (المنصف المرزوقي) إلى رئاسة البلاد. ثم تبدأ شعبية المعارضين التقليديين للنظام بالتراجع، ويطلّ العنف السياسي برأسه أكثر من مرّة، ويتأخّر الاتفاق على دستور حتى بداية 2014. وفي الخريف من العام نفسه، يحقّق حزب نداء تونس (بزعامة أحد أعمدة النظام القديم، الباجي قايد السبسي) أعلى نسبة من المقاعد (86 مقعداً)، ثم يفوز السبسي بالرئاسة في وجه منافسه المرزوقي. أما عدد نواب حزب النهضة، فإنه يتراجع من 89 إلى 69 نائباً، وسوف يتراجع إلى 54 نائباً في الانتخابات التشريعية التالية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

وفي إشارة أولى إلى إحباط التونسيين من الأحزاب السياسية، يفوز المرشّحون المستقلون بأغلب المقاعد في أول انتخابات بلدية تشهدها تونس منذ انطلاق الثورة (مايو/ أيار 2018). سوف تلي هذه الإشارة الأولى إشارةٌ لاحقة في الاتجاه نفسه، بعد أقل من سنة ونصف السنة، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حيث سينتخب التونسيون رئيساً غير حزبي، ولا يمتلك برنامجاً واضحاً ولا خبرة سياسية. يقوم هذا الرئيس، بعد أقل من سنتين على انتخابه (يوليو/ تموز 2021)، بسلسلة إجراءاتٍ استثنائية، أقال فيها الحكومة وجمّد البرلمان ثم حلّه، ثم عطّل معظم مواد دستور 2014، ومنح نفسه سلطة الحكم بالمراسيم، وجمع في يده كل السلطات.

من تفويض الأحزاب المعارضة التقليدية، إلى العودة إلى الاعتماد على رجالٍ من النظام السابق، أملاً بخبرتهم، إلى تأمل الخلاص عبر رجل قانون نزيه وبعيد عن الأحزاب، محطّات في مسار من الإحباط، رافقه على طول الخط ضعف اقتصادي وصعوباتٌ معيشية، كان عدم الاستقرار السياسي الذي يميز عادة المراحل الانتقالية من أهم أسبابها، فقد سجّلت تونس، وفق التقارير الاقتصادية، تراجعاً في الاستثمارات والادّخار الوطني، وفي نسبة النمو التي تباطأت بين 2011 و2020 إلى 0.58% قياساً على العشرية التي سبقتها، والتي وصلت سنوياً إلى 4.5%. هذا فضلاً عن ارتفاع معدّل البطالة، وبصورة خاصة في صفوف خرّيجي الجامعات.

التراجع أمام تقدّم استبدادية الرئيس لن ينجم عنه سوى مزيد من الخسائر، ومن تعقيد المواجهة تالياً

المعضلة التي تواجهها عملية الانتقال السياسي عقب الثورة اقتصادية بقدر ما هي سياسية. في السياسة، تشهد المرحلة الانتقالية، نتيجة تحرير المجال العام، صراعاتٍ حزبيةً وتوترات وعدم استقرار قد يحرّض لدى الجمهور "حنيناً" إلى استقرار النظام القديم على علاته. وفي الاقتصاد، تنعكس اضطرابات المرحلة الانتقالية سلباً على النمو وعلى مستوى المعيشة، وهو ما يثير سخط الناس، ويجعل دولة ما بعد الثورة المنتصرة تستعيد آليات قمع النظام السابق لإخماد آمال أهل الثورة.

يجادل فرنسيس فوكوياما في أن الثورات العربية الحديثة لا تشبه ثورات الموجة الثالثة من الديمقراطية التي شهدها الثلث الأخير من القرن العشرين (حسب تصنيف هنتنغتون) بقدر ما تشبه الثورات الأوروبية 1848، من حيث غياب تجربة ديمقراطية سابقة في هذه البلدان، ومن حيث تغلب الثورات المضادّة، غير أنه يغفل عن حقيقة أن الشروط العامة في أوروبا كانت نحو نهوض اقتصادي، الأمر الذي لا يتوفر في البلدان العربية التي تعاني صعوبة اقتصادية مستعصية، وفي إطار عالمي يشهد انكماشاً اقتصادياً.

ولكن إذا افترضنا أن التحرّر السياسي يقود إلى تحسين الوضع الاقتصادي، وهذا أمر غير بديهي ويحتاج إلى تمعن وبحث لإدراك الآليات، فإن المرحلة الانتقالية التي يُنتظر منها أن تحقق التحرر السياسي، هي، في الغالب، مرحلة انكماش اقتصادي. الأمر الذي يمكن أن يحوّل المرحلة الانتقالية إلى مرحلة نكوص نحو آليات النظام القديم، كما نشهد اليوم في تونس. من المهم في تونس إعاقة عملية النكوص هذه، ومواجهة التدابير الديكتاتورية التي يتّخذها قيس سعيّد. وإذا ساد المزاج السلبي على الشارع التونسي، تصبح مهمة الأحزاب السياسية في المواجهة مهمة وحاسمة في مواجهة هذه العملية، لأن التراجع أمام تقدّم استبدادية الرئيس لن ينجم عنه سوى مزيد من الخسائر، ومن تعقيد المواجهة تالياً.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.