عفو ملكي في المغرب وفرحة ناقصة
خلّف العفو الملكي الصادر في المغرب، مساء الاثنين الماضي، بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتولي محمد السادس المُلك، ارتياحاً واسعاً في أوساط الرأي العام، خصوصاً أنه، هذه المرّة، شمل صحافيين وناشطين ومدوّنين ومناهضين للتطبيع مع إسرائيل وإسلاميين. وضجّت صفحات المواقع الاجتماعية في المغرب بالترحيب بالقرار الملكي الذي استُقبل بفرحة كبيرة داخل الساحتين الإعلامية والحقوقية في المغرب. وشمل العفو، الذي كان منتظرا، بمناسبة اليوبيل الفضي للملك، صحافيين بارزين، مثل توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني وعمر الراضي، ما يجعل السجون المغربية، لأول مرة منذ سنوات، خالية من الصحافيين. وهذا في حد ذاته خبر مفرح. كما تضمّنت لائحة العفو مدوّنين ونشطاء مناهضين للتطبيع، بينهم ثلاثة ينتمون إلى جماعة العدل والإحسان، أكبر جماعة إسلامية معارضة في المغرب. واستفاد من العفو محكومون في قضايا التطرّف والإرهاب، بعد مراجعة مواقفهم وتوجهاتهم الفكرية، ونبذهم التطرّف والإرهاب.
وإذا كانت الفرحة قد عمّت بيوت أسر المُفرج عنهم المحظوظين، فإنها ظلت ناقصة بما أن العفو استثنى أشهر المعتقلين السياسيين في المغرب، وهم معتقلو "حراك الريف" الذي شهده المغرب عام 2017، ويتعلق الأمر بسبعة، من بينهم زعيم الحراك ناصر الزفزافي، ويقضي هؤلاء عقوبات سجنية يناهز مجموعها مائة سنة موزّعة بينهم على شكل أحكام قاسية تراوح ما بين 20 و15 و10 سنوات.
كما لم تشمل الفرحة بيت نقيب المحامين محمد زيّان، الذي سبق له أن شغل منصب وزير حقوق الإنسان في تسعينيات القرن الماضي في المغرب، وصدر في حقه، أخيراً، حكمان يُدينانه بعقوبات بالحبس النافذ خمس سنوات. ويقول دفاعه إن الأحكام صدرت على خلفية آرائه المنتقدة للحكم وللأجهزة الأمنية، وتصنّفه منظمّات حقوق الإنسان بأنه أكبر معتقل رأي في المغرب، بما أن عمره يناهز 82 سنة، ومع ذلك، لم يشفع له لا سنّه ولا أمراض الشيخوخة التي يعاني منها للتمتّع بالعفو مثل باقي المعتقلين.
يبقى قرار العفو، رغم أهميته، بدون معنى إذا لم يتدارك باقي المعتقلين
أما المجموعة المنسية من العفو الملكي فهم المعتقلون الصحراويون، وهم 19 مدانون على خلفية تنظيمهم اعتصاما تحت الخيام في ضواحي مدينة العيون، كبرى حواضر الصحراء الغربية، نهاية عام 2010، لرفع مطالب اجتماعية. وأدّى تدخل قوات الأمن المغربية لتفكيك مخيمهم إلى مواجهات مع المعتصمين، ما تسبّب بسقوط عناصر من قوات الأمن ومن المعتصمين. وصدرت في حق هؤلاء، الذين اعتبرتهم السلطات المغربية قادة المعتصمين أحكام قاسية، ما بين المؤبد و30 و20 سنة نافذة، بعدما دينوا أمام محكمة عسكرية. ... وفي الحالات الثلاثة صدرت عدة تقارير عن منظمّات حقوقية مغربية ودولية، تطعن في طبيعة المحاكمات التي خضعوا لها، كونها لم تحترم معايير المحاكمة العادلة، ما أصبح يحتّم، حسب التقارير، الإفراج عن المعتقلين الذين دينوا على أثرها.
استثناء هؤلاء المعتقلين من العفو الملكي المعلن غير مفهوم، وغير مبرّر، وغير مستساغ، لأنه جعل الفرحة ناقصة والعفو غير شامل، لكن الأمل ما زال كبيرا في المستقبل، لتأتي مبادرة ملكية قريبة تفتح باب الحرية واسعاً أمام من تبقّوا من معتقلين سياسيين ومعتقلي الرأي في سجون المغرب. وهذا مطلب قوى حية كثيرة في المغرب تعتبر العفو الشامل بداية لصفحة جديدة تعيد الأمل في إمكانية إعادة البناء، فالمغرب مقبلٌ على استحقاقات دولية كبيرة ومهمّة، ومن مصلحته تنظيف سجله في مجال حقوق الإنسان قبل استضافة منافسة المونديال عام 2030، وإعادة ترميم صورته التي أصابتها خدوشٌ كثيرة في السنوات الماضية بسبب نهج سياسة أمنية قمعية أدّت إلى تكميم الأفواه، وتقليص مجال الحريات، والقضاء على الصحافة المستقلة.
المغرب مقبلٌ على استحقاقات دولية كبيرة ومهمّة، ومن مصلحته تنظيف سجله في مجال حقوق الإنسان
نتمنى أن لا يكون قرار العفو مجرّد قرار إداري فرضته لحظة سياسية لها رمزيتها الكبيرة في المغرب، وأملته الرغبة في التخفيف من حدّة نقد منظمّات حقوق الإنسان في الداخل والخارج، وإنما أن يكون مبادرة سياسية لها ما بعدها، تسعى إلى انفراج سياسي أكبر داخل البلاد من شأنه امتصاص حالة الاحتقان الاجتماعي الكبير الذي يعيشه المجتمع المغربي، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة في سنة جفاف حادّ، والغضب الشعبي المتصاعد الذي تغذّيه صور المجازر الإسرائيلية في غزّة، في وقت تصر فيه الرباط على التمسّك بعلاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، في تحدٍّ للمطالب الشعبية التي تنادي بوقف كل أشكال التطبيع.
في بداية توليه المُلك قبل ربع قرن، أعطى محمد السادس إشارات قوية إلى الشعب المغربي بعثت الأمل عند المغاربة في وقت كانت فيه البلاد، كما كان يقول الملك الراحل الحسن الثاني، على وشك الإصابة بنوبة قلبية، وكان لتلك الإشارات مفعولها السحري، بالرغم من أن الهدف منها كان إرساء شرعية العهد الجديد، لأن السنوات التي ستأتي كانت من نتائجها تراجعات كبيرة على المستوى السياسي وعلى مستوى الحرّيات، وهو ما أعاد فتح السجون المغربية أمام معتقلي الرأي والحرية. اليوم، أمام الملك فرصة جديدة لتدارك كل الأخطاء التي ارتكبت في السنوات الماضية، وتصحيح المسار، والتأسيس لمغرب قوي محصّن بالديمقراطية والحرية والكرامة لكل مواطنيه تحت سقف القانون، فقرار العفو الحالي سيبقى، رغم أهميته، بدون معنى إذا لم يتدارك باقي المعتقلين ليتمتّع بالحرية المحرومون منها في القريب العاجل، وإذا لم يتبعه انفراج سياسي شامل يعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، ويبعث الأمل من جديد في بناء مغرب يتّسع لجميع الآراء، مغرب الحرية والكرامة والديمقراطية للجميع.