عشرة أيام هزّت بريطانيا
عاشت بريطانيا حدث رحيل الملكة إليزابيت الثانية على نحوٍ غير مسبوق، وتجاوزت الجنازة في حجمها وصداها جنازة رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل عام 1965، وجنازة والدها الملك جورج السادس عام 1952. ويعدّ هذا الاهتمام قبل كل شيء نوعا من التكريم للسيدة التي جلست على عرش الامبراطورية البريطانية عام 1953 وهي في عمر 27 عاما، وتثمينا لدورها الخاص في الحياة البريطانية سبعة عقود. وفي حين نظر العالم إلى الترتيبات التي شهدتها الجنازة أنها حفلت بمبالغةٍ شديدة، فإن الأمر على العكس بالنسبة للدولة في بريطانيا. وكان أحد الشواغل التي اهتمّ بها الساهرون على ترتيبات الجنازة إخراج المسألة في مستوى يجيب على الأسئلة المتضاربة، والهواجس الكثيرة التي اجتاحت الأوساط البريطانية بعد رحيل الملكة، التي عايشت عدة أجيال، وشهدت عدة أطوار وتحوّلات، وبقيت تحافظ على قدرٍ كبير من الصلة بينها وبين البريطانيين الذين يحفظون لها مكانة خاصة، كما لو أنها الجدّة كبيرة العائلة. ولذا كان التقدير والوقار والهيبة والحب والولاء من مستلزمات الجنازة، وبمثابة مراسم تعبّر عن الحب، والقلق أيضا حيال ما سيواجه التاج البريطاني، ووريثها ابنها الملك تشارلز الثالث البالغ 73 عاما، والذي لا يحظى بشعبيةٍ توازي التي حازتها الأم، سيما وأنه يتولى المهمة وسط اختلاف نظرة الأجيال الجديدة إلى الحكم الملكي، وأمامه تحدّيات داخلية، منها وضع سياسي واقتصادي صعب وحكومة جديدة ضعيفة، وفي طريقه سلسلة من الأزمات الخارجية، منها تداعيات الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد، ونتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
الجنازة التي حضرتها غالبية زعماء العالم، باستثناء روسيا وإيران وكوريا الشمالية، كانت استعراضية، موسيقى جنائزية، ألوان، ورود، معمار، خيول، ثراء بصري وسمعي مدهش، ما شكّل فرصة للبلد لإعادة تقديم صورته التي اهتزّت داخليا وخارجيا جرّاء العزلة التي دخلها بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأرادت لندن من خلال الجنازة المبهرة في ترتيبها وتفاصيلها الغنية، وتداخل فيها الحاضر بالتاريخ ورموزه، أن توجّه رسائل كثيرة عن قوتها وعراقة الملكية في بريطانيا، والتي هي مكوّن أساسي من مكوّنات شخصية هذا البلد وثقافته وفولكلوره ونموذجه الديمقراطي الفريد، الذي يشكّل الديمقراطية الكونية الأولى، التي لم تستطع الديمقراطيات الكبرى أن تزحزحها عن الصدارة، وهذه ميزة أساسية ومن أسباب قوة الدولة التي تعطي المثال في تعايش الأعراق والثقافات والديانات تحت قبة التاج البريطاني وفي حمايته. وكانت للملكة الراحلة مواقف كثيرة مشهودة في هذا المجال، ليس أقلها الدور الذي لعبته في تفكيك التمييز العنصري في جنوب أفريقيا وتحرير الزعيم نلسون مانديلا من سجنه.
كانت الملكة الديبلوماسية الأولى، التي لعبت، في أحيانٍ كثيرة، وعلى نحوٍ غير منظور، دورا أساسيا في تفكيك أزمات داخلية وخارجية كثيرة، ومن دون أن تتدخل أو يصدُر عنها موقف صريح، كانت تساهم في مساندة حكومتها على تجاوز الصعاب، وإيصال الرسالة بمهارة أكثر من السياسيين، وهذا أحد التحدّيات التي ستواجه الملك الجديد، المعروف بمواقفه الصريحة من قضايا كثيرة محلية ودولية، سيما المناخ واللاجئين وحوار الأديان والإسلام والعالم الإسلامي. وفي كل الأحوال، سيكون أكثر تسيّسا وقربا من هذه الملفات، بالمقارنة مع والدته التي كانت تعد نفسها فوق السياسة بمفهوم الحكم، ولكنها لم تتخلّ عن دور الحكم، الذي يرفع الشارة عند الضرورة، ولذا بقي الملعب تحت بصرها. ومن غير المستبعد أن يواجه الملك الجديد حملاتٍ سياسية وإعلامية من اليمين الشعبوي، لأسبابٍ عدة، منها قضية زواجه وطلاقة من الأميرة ديانا التي لقيت مصرعها في حادث سير في باريس عام 1997.