عسكر السودان: بأيدينا لا بأيدي غيرنا
ليس بالضرورة أن يكون كل من يخون بلده وشعبه عميلاً أجنبياً أو وكيلاً عن جهة خارجية، بل قد يكون بعضُهم مدفوعين بطموحاتٍ خاصةٍ ضيقةٍ عندهم، ونوازع إجرامية ذاتية يختزنونها، وأحقاد مشحونة يحملونها، وصراع قوى ينخرطون فيه، ومصالح شخصية تسوّغ لهم تدمير بلدانهم وتمزيقها، وتشريد شعوبهم ونكبها. في مثل هذه الحالات، تغدو آليتا العمالة والوكالة في التحليل غير ذاتي صلة، اللهم إلا أن تلتقي المصالح مع حسابات جهاتٍ خارجية، أو تُلجئهم الحاجة إلى الارتماء في أحضان الأجنبي، طمعاً في دعمه وعوْنه، حينها يكون تدمير البلد أمراً ممنهجاً، ضمن أجندةٍ أوسع وأخبث، وتصبح إمكانية إيجاد حلول سلمية وبنّاءة أكثر صعوبة، إن لم تكن أكثر استعصاءً، فاللاعبون كثر، لا بد أولاً من تلبية بعض أطماعهم وأجنداتهم.
قد ينسحب ما سبق على الواقع المرير في السودان الذي يُدَمَّرُ بأيدي بعض أبنائه ويمزّق ضمن صراع على النفوذ والسلطة والثروة، أما الشعب السوداني فلا بواكي له، إلا ما يزعمه طرفا الصراع، في الجيش وقوات الدعم السريع، من غيرةٍ كاذبة عليه، وحرص في الدفاع عن مصالحه. ومن المفارقات الساخرة أن يَتَقَعَّرَ العسكر في الجانبين المتحاربين بأنهما يريدان ضمان نظام حكم مدني ديمقراطي مقابل عسف الطرف الآخر وديكتاتوريته، رغم أن كليهما تعاضدا في الانقلاب على الثورة الشعبية التي مكّنت من إطاحة نظام عمر البشير، في إبريل/ نيسان 2019، ولم يتورّعا، بعد ذلك، عن ارتكاب الجرائم والمجازر بحقّ المتظاهرين المطالبين بحكم مدني ونهاية لحقبة تحكّم العسكر بالبلاد والعباد.
ليس أدل على ذلك من تشكيل العسكر بعد إطاحة البشير المجلس العسكري الانتقالي، ثمَّ تحت وطأة الضغوط الخارجية وضغط الشارع السوداني، لجأوا إلى صيغةٍ مُعَدَّلةٍ، هي في حقيقتها حيلة، فشكلوا، في أغسطس/ آب 2019، "مجلس السيادة"، بشراكةٍ ظاهرية وزّعت المقاعد مناصفة بين العسكر وقوى إعلان الحرية والتغيير السوداني، بهدف الإشراف على المرحلة الانتقالية في البلاد، والتي حددت حينها بـ39 شهراً، لمَّا تنقضي بعد. أمَّا المهزلة، فكانت في تولي قائد الجيش عبد الفتاح البرهان قيادة المجلس، في حين سُمِّيَ قائد مليشيات قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائباً له. ورغم أن المدنيين والعسكريين في مجلس السيادة توافقوا على الخبير الاقتصادي عبد الله حمدوك رئيساً للوزراء، إلا أنه لم يمض عامان على توليه منصبه حتى كان العسكر، جيشاً وقوات دعم سريع، ينقلبون عليه في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ويضعونه رهن الاعتقال.
لا يحتاج البرهان وحميدتي، والعسكر من ورائهما، أن يكونوا عملاء أو وكلاء للأجنبي، إلا أنهم لا يقلون خطراً عنهم في تدمير بلدهم وتمزيقه ونكب شعبهم
ما يجري في السودان من معارك دموية، دخلت شهرها الثالث يوم أمس، ليس بالضرورة نتيجة عبث أصابع أجنبية، ولكن هذه ليست غائبة عن تسعير نيرانها. للبرهان حلفاؤه الإقليميون، كما مصر، ذلك أنه يخدم أجنداتهم. ولحميدتي كذلك حلفاؤه الإقليميين، كما الإمارات، ذلك أنه يخدم أجنداتهم أيضاً. الأنكى أن حميدتي يعمل منذ سنوات مع مرتزقة فاغنر الروسية، التي كان البشير قد فتح لها الباب من قبل، لنهب ثروات السودان من الذهب وتهريبه إلى الخارج. ويحتلّ السودان المركز الثاني على مستوى القارّة الأفريقية في إنتاج الذهب، بحجم يبلغ أكثر من 90 طناً سنوياً، تقدّر قيمتها بخمسة مليارات دولار، لا يدخل الخزينة السودانية منها شيء تقريباً، إذ تهرّب إلى روسيا، أو إلى حساباتٍ خاصةٍ بحميدتي في دبي. وبسبب التمدّد الروسي في السودان، والطموح الصيني فيه كذلك جراء موقعه الجيوسياسي بوابة إلى القرن الأفريقي، وسواحله على البحر الأحمر، دخلت الولايات المتحدة على الخط، وإسرائيل أيضاً.
وعود على بدء، لا يحتاج البرهان وحميدتي، والعسكر من ورائهما، أن يكونوا عملاء أو وكلاء للأجنبي، إلا أنهم لا يقلون خطراً عنهم في تدمير بلدهم وتمزيقه ونكب شعبهم. السودان بلد غنيٌّ بمصادره وثرواته، التي لا تقتصر على الذهب. ثمَّة أراض صالحة للزراعة تتجاوز 200 مليون فدان، وفيه ثروة حيوانية معتبرة، وفيه نفط وفضّة ونحاس ويورانيوم. ومع ذلك، هو بلد فقير، وشعبه معدم رغم الكفاءات التي يتوفر عليها. من ثمَّ، لا يهم لمن يكون ولاء المتصارعين ومن يدعمهم، فهم في ذواتهم مجرمون خونة للسودان وشعبه، وكثير من دولنا العربية مبتلاةٌ بمثل هؤلاء، ممن شعارهم تدميرها بأيدينا لا بأيدي غيرنا!