عسكرية جيهان السادات
قطع عبد الفتاح السيسي نزهته الاصطيافية على الساحل الشمالي، وترك درّاجته الهوائية وحيدة، وهرول إلى القاهرة لإقامة جنازة عسكرية مهيبة للسيدة جيهان السادات، أرملة الرجل الذي تعهد بأن تكون حرب أكتوبر في 1973 آخر الحروب.
"أكتوبر آخر الحروب" تلك الجملة المفتاحية التي خلدت بعدها العسكرية المصرية إلى الراحة، على فُرُش السلام الوثيرة، بصرف النظر عن كونه سلامًا، أم استسلامًا للرؤية الأميركية الصهيونية لما يجب أن تكون عليه المنطقة.
منذ فعلها أنور السادات في كامب ديفيد نهاية سبعينيات القرن الماضي، والعسكرية المصرية صارت إلى أمور الاقتصاد أقرب منها إلى شؤون الحرب، تنفيذًا لما جاءت به نصوص "كامب ديفيد" وبنودها، التي أحالت العدو صديقًا وشريكًا، وفرضت علينا اختراع أعداء جدد، فنعادي أشقاء أحيانًا، ونمارس العداء لأنفسنا غالبًا .. المهم أنه حين تُذكر الحرب لا يكون المقصود حربًا مع الكيان الصهيوني (الصديق)، بل يقصد بها أي طرف آخر.
الشاهد في ذلك كله أن تلك العبارة "أكتوبر آخر الحروب" كانت أول بند في مسوّغات تولي السلطة في مصر، بحيث صارت مع الوقت وكأنها القسم الذي على كل من يريد حكم مصر أن يؤديه أمام أولئك الذي قال عنهم السادات إنهم يمسكون بتسعة وتسعين بالمائة من أوراق اللعبة، ليصبح هو، ومن جاء بعده، جديرين بوصف "أمناء العملية" عملية السلام التي أصبحت مصدر السلطة والثروة معًا.
من هنا، يصبح تسيير جنازة عسكرية رسمية لأرملة الرجل الذي وضع العسكرية في ثلاجة السلام الإسرائيلي شيئًا باعثًا على السخرية والأسى، خصوصًا عندما تأتي هذه التظاهرة الاستعراضية الفجّة في سياق عمليات ازدراء وتنكيل بعسكريين حقيقيين، من ذوي الرتب والخبرات الأعلى من السيسي شخصيًا، وصلت إلى حد اعتقالهم ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، ناهيك عما جرى مع رئيس الجمهورية، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الرئيس محمد مرسي من سجن وقتل بالحرمان من العلاج، ثم منع إقامة جنازة عادية له .. ويمكنك أن تذكر، بالطبع، ما حدث مع اثنين من مفاخر العسكرية المصرية في معركة أكتوبر، اللواء أركان حرب عادل سليمان، اعتقال ثم إقامة جبرية حتى الموت، ثم لا جنازة عسكرية بعد الموت. واللواء أركان حرب عبد الحميد عمران، رحيل إلى المنفى الإجباري، ثم موت في الغربة، ودفن في أرض غريبة، من دون خبر أو إشارة في وسيلة إعلام مصرية واحدة.
تلك الجنازة العسكرية الفخيمة المهيبة التي أقامها السيسي لجيهان السادات لم تكن تكريمًا للعسكرية المصرية، وإنما ابتذالًا وإهانًة لها، فيما التكريم والاحتفاء هما للمسار والاختيار الذي جسّده أنور السادات، وشريكته، في الحياة وفي السلطة، جيهان رؤوف صفوت، أو "أرملة مشروع كامب ديفيد" في عبارة واحدة.
الكلام عن تسلط جيهان السادات على الحياة المدنية المصرية مثبت بالشهادات الموثقة والأدلة القطعية، وخصوصًا في مرحلة النهم الشديد لحمل أضخم الألقاب العلمية، من دون علم يُذكر، عن طريق نفر من المثقفين ارتضوا أن يلعبوا معها أدوار حاشية السلطان التي تُؤمر فتطيع، وتفعل كل ما يحلم به ويرغبه.
وفي ذلك يمكن الرجوع لشهادات مثقفين احترموا أنفسهم ولم يمسحوا بعلومهم بلاط السلطان، مثل الدكاترة عبد العظيم أنيس وعبد المحسن طه بدر، وغيرهما ممن رفضوا أن يكونوا مثل جابر عصفور ولويس عوض وسهير القلماوي وآخرين تم استعمالهم في حصول سيدة القصر، غير المتعلمة، على بكالوريوس في الأدب العربي، جامعة القاهرة عام 1977. ثم ماجستير في الأدب المقارن، جامعة القاهرة عام 1980. ثم دكتوراه في الأدب المقارن، جامعة القاهرة عام 1986، ثم نالت الدكتوراه من كلية الآداب بجامعة القاهرة تحت إشراف الدكتورة العالمة سهير القلماوي، لتعمل مباشرة في هيئة التدريس في الجامعة نفسها.
يردّد بعضهم إنها كانت صاحبة طموح أكاديمي، بعيدًا عن السياسة، وسلطة زوجها، لكن جيهان نفسها تقرّ بأنها لعبت أدوارًا سياسية منذ بواكير تولي أنور السادات الحكم.
تحكي جيهان للمذيعة عزيزة نايت سي بها في سلسلة حلقات أعادت قناة فرنسا 24 بثها عما جرى في مايو/ أيار 1971 الذي يسميه الساداتيون "ثورة تصحيح"، ويعتبره الناصريون انقلابًا، أن محمد حسنين هيكل جاء إليها وأبلغها بأن هناك مخطّطًا لمنع أنور السادات من الوصول إلى مبنى التلفزيون في إطار مؤامرة لإطاحته، وأن هيكل طلب منها ألا تبلغ أنور (السادات) أنه هو الذي أبلغها، وأنه فقط يفعل ذلك لإنقاذ الموقف وإحباط المؤامرة.
ثم تضيف حكاية أخرى في الموضوع ذاته، ملخّصها أن ضابطًا في جهاز الأمن طلب مقابلتها، وحين جاء قال لها إن معه شريطًا مسجلًا يحتوي على تفاصيل مؤامرة 15 مايو كاملة، فأخذت منه الشريط وجلست تستمع إلى ما فيه، هي والسادات ومدير مكتبه، ثم أرسلت ابنتها، نهى، لاستدعاء هيكل من منزله الذي لا يفصله عن مقر سكن السادات سوى بيتين، لكي يحكي للرئيس تفاصيل مؤامرة التلفزيون.
أنت هنا أمام امرأة لم تستغل، فقط، سلطة زوجها، بل شاركته فيها منذ اليوم الأول، إلى حد أنها كانت تعلم قبل زوجها بما يدور في الجبهة الداخلية، وتستقبل وزير الإعلام رئيس تحرير الأهرام، والقيادات الأمنية، من دون علم السادات.
والأمر لا يختلف كثيرًا في الشؤون الخارجية، إذ كان حضورها طاغيًا ومؤثرًا في سير مباحثات السادات مع الأميركيين والصهاينة في مشروع كامب ديفيد. ولذلك لم يكن غريبًا أن تنعيها "إسرائيل" وتتألم لفقدها، فيغرّد رئيسها باللغة العربية رثاءً لها.