عبد الفتاح مبارك VS علاء وجمال السيسي
هي ذاتها الأوهام التي تتحدث عن تناقض بين الجنرالين، أحمد شفيق وعبد الفتاح السيسي، أو عن اصطدام أو اصطاك بين تروس الأجهزة ومؤسسات الدولة العميقة، تلك الحكايات المسلية التي تجيد السلطة الحالية في مصر تصنيعها وتغليفها، وفرضها على موائد السفسطة والثرثرة في كوكب المعارضة.
لم يكن ذهاب المشير حسين طنطاوي إلى ميدان التحرير ظهر الخامس والعشرين من يناير قبل عامين، من أجل تكوين تيار شعبي ثوري لإزاحة السيسي، كما قرأ بعض الجالسين على أرائك المعارضة المشهد حينذاك.
ولم يحتضن طنطاوي علاء وجمال مبارك بكل ذلك الحنان، في حفل زفاف أقيم أخيرا لابن مدرب سابق لمنتخب كرة القدم في زمن مبارك والنجلين، تعبيراً عن ضجر عميق للدولة العميقة من عبد الفتاح السيسي، أو دليلاً على أن ثمّة منافسة مفترضة له على كابينة القيادة، كما استقبل المشهد بعض المتريضين في حدائق المعارضة.
المشير طنطاوي هو المرشد الأعلى لنظام السيسي منذ البداية، أو هو رئيس مجمع أو مجلس تشخيص مصلحة النظام العسكري، إن شئت الدقة، والمسافة بينه وبين السيسي هي ذاتها المسافة بيته وبين عائلة مبارك، وربما في الاتجاه ذاته، إذ لا يوجد ما ينهض دليلاً دامغاً على تناقضات أو منافسات أو رغبات في الإزاحة.
ذلك أن القصة من أولها إلى آخرها أن ثلاثتهم محاربون ينتمون لمشروع واحد، تجمعهم كراهية مفرطة ورغبات متأججة في الانتقام من ثورة يناير التي أطاحت كبيرهم قبل سبع سنوات، وكادت تنطلق في مسار للتغيير الحقيقي والشامل لمعادلات الدولة المصرية العميقة، باستبدادها وفسادها وتبعيتها وتطبيعيتها.
ارجع بالذاكرة إلى لحظات ما قبل الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، وقلّب في ألبوم الصور ستجدهم جميعاً مصطفين في مشروع إسقاط ما جاءت به ثورة يناير، متحالفين متآلفين عازمين على الانتقام العنيف.
اتسعت هذه الدائرة الانتقامية الآن، بحيث لم تعد تكتفي بحدود الإخوان والإسلام السياسي، وصارت تلتهم كل من كان هناك، في ميدان التحرير، إبّان اجتراح المصريين معجزة الثورة على نظامٍ تمتد جذوره في التربة مسافة أكثر من ستين عاماً.
هناك صورتان حديثتان تلخصان الموقف كله، الأولى: وجوه من يسمون قيادات الحركة المدنية الديمقراطية، في حفل إفطارهم المفضوض بالقوة، وقد اصطبغت بالكدمات والسحجات، من آثار غارةٍ عنيفة، نفذتها مجموعات من سلاح "المواطنين الشرفاء" طاولت المجتمعين، كلهم، شيوخاً وشباباً، ودقّق في تفاصيل اللقطة، لتتعرف على وجوه عديدة، كانت مع السيسي وخلفه وبجانبه في لحظة الانقضاض على ثورة يناير.
ضع هذه الصورة أمام الصورة الأخرى: علاء مبارك في مسجد الحسين، ويلتف حوله المواطنون الشرفاء يحيونه، ويلتقطون الصور التذكارية معه، ويهتفون بحياة أبيه.
لا شيء خاضع للمصادفة هنا، فالفنان الذي صنع لقطة حفل الإفطار هو نفسه صانع لقطة ابن مبارك في جامع الحسين، والمنتج الذي قرّر عرضهما على أوسع نطاق، أيضاً واحد، والرسالة مكتوبة باللون الأزرق، لون آثار الكدمات على الوجوه: الجماهير تحب مبارك وأبناء مبارك وتكره الثورة.. الجماهير تريد الدولة العميقة بطغيانها وفشلها وفسادها، ولا تريد الثورة.
الفنان المصور والمنتج هو عبد الفتاح السيسي الذي لا يتوقف نظامه عن إنتاج وتصدير الصور الزائفة عن الواقع المصري، مواصلاً عملية سحق الذاكرة، وافتراس الوعي العام، وتصوير الأمر وكأن مصر تحولت إلى شعب من "المواطنين الشرفاء"، وفقاً لمعجم الثورة المضادة، وقيم مصر النخنوخية.
يعاونه في ذلك من يصمون الشعب المصري بالميل إلى الاستعباد، ويستدرجون الجماهير للاشتباكات العدمية في خرائب الادعاء والسفسطة الكاذبة، في سياق ملاطفة الطغيان، بعد مرحلة الغزل المبكر جداً في صفاته وقدراته غير المسبوقة.
يريدون بهذه الصور إزهاق الأمل، وقتل الحلم بإمكانية مقاومة كل هذا القبح، وكل هذا الخراب، استباقاً للذكرى الخامسة لتلك النكبة التي وقعت في الثلاثين من يونيو، وكنست البلاد وسحقت العباد، وأيضا تكريس حالة الإحساس بالضعف والعجز لدى كل من يفكّر في الخلاص والتحرّر من قيودهم وسلاسلهم.
على أن الصور تنطق بأنهم يقفون جميعاً، يداً واحدة ضد الثورة وضد الحرية والكرامة الإنسانية والعيش الكريم، لا تناقض هنا بين السيسي ومبارك وطنطاوي، فكلهم عائلة واحدة ومشروع واحد.
غير أن العبث بعينه أن يقرأ بعضهم كلام الصور انحيازا من المصريين للاستبداد، أو حنينا لزمن حسني مبارك، وكأن هؤلاء الشّراح موصلون جيدون لما يريد منتج الصور إثباته وتثبيته.
الصحيح أن مجموعات "المواطنين الشرفاء" من شعب السيسي منحازون للاستبداد، ويحبون مبارك وأولاده، ويحنون لزمن الفساد، وليس صحيحاً أن أكثرية المصريين تفضل هذا الخيار.
تذكّر أن هناك عشرات الآلاف من المسجونين والمعتقلين في سجون الاستبداد، لتتأكد أن عدد المصريين الحقيقيين أكبر من عدد "المواطنين الشرفاء" بكثير.