عبثُ المليشيات العراقية
ربما يسأل المرءُ عما إذا كانت الجماعات المسلحة الشيعيةَ المشكلةُ المليشياوية الوحيدةُ في الشرق الأوسط. الرد ببساطة إنها ليست الوحيدة. هناك مليشيات من أنواعٍ شتّى هي مشكلة مستعصية في أكثر من بلد. مِن سورية المعارضة السنية والكردية والنظام، مرورا بالسودان وليبيا وحلفاء الحكومة اليمنية والانفصاليين ضدّها، وانتهاء بأفغانستان، للمليشيات كعبٌ عال.
ليست المليشيات الشيعية الوحيدةَ الممثلةَ معضلةَ الخروج عن سياق الدولة أو تدميرها، إلا أن فرادتها تكمن في أنها، باستثناء مليشيا سرايا السلام العراقية (جيش المهدي سابقا)، التابعة لمقتدى الصدر، جزءٌ من مشروع إقليمي إيراني. قد يكون هناك توجّه تركي مشابه في دعم مليشيات سنية في بلدان عدة. مع هذا، التحالف المليشياوي والحزبي المرتبط بأنقرة ليس أكثر من جماعاتٍ تدعمها. لم يتحوّل الأمر بعد إلى شبكة عابرةٍ الحدود مترابطةٍ.
حلفاء إيران وأذرعها مترابطون بشبكة واسعة مكوَّنة من مليشيات محلية، ومربوطة بجهاز مركزي يشبه المليشيا هو الحرس الثوري الإيراني. مجموعُها يكوِّن شبكةً عابرةً الحدود. الجزء العراقي منها هو الأكبر عدداً قياساً إلى اللبنانية والسورية واليمنية. غير أنه ليس كذلك من حيث الاهتمام والقيادة والرمزية. لا تساوي التنظيمات المسلحة العراقية أهمية حزب الله والحوثيين في خطاب الحرس الثوري. إذ تسيطر العُلوية الإيرانية والحزب اللهية اللبنانية على مسار تحرّكات الجماعات المسلحة العراقية. لا تقدر الأخيرة على أن تؤثر قيدَ أنملة في توجّهات أو تحرّكات أو تنظيمات حزب الله أو جماعة أنصار الله. إنها مجموعاتٌ تتذيلُ تسلسلَ التراتبيةِ الإدارية في شبكة الحرس الثوري الإقليمية. بل، في أكثر من مناسبة سابقة، إلى جانب قائد فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني والحالي إسماعيل قاآني، أدار محمد كوثراني، وهو رجل دين قيادي في حزب الله، مشاورات تشكيل حكومات عراقية.
حلفاء إيران وأذرعها مترابطون بشبكة واسعة مكوَّنة من مليشيات محلية، ومربوطة بجهاز مركزي يشبه المليشيا هو الحرس الثوري الإيراني
كوثراني، المدرجُ منذ عام 2013 على قوائم الإرهاب العالمي الأميركية، هو، بحسب برنامج مكافآت من أجل العدالة الحكومي الأميركي، يشرف على تسهيل مهام الجماعات المسلحة العراقية وتدريبِها ودعمِها في قمع الناشطين والاعتداء على البعثات الدبلوماسية. ليس الدور جديدا لكوثراني. وفقا لصحيفة الغارديان البريطانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2010، أشرف القياديُ في حزب الله اللبناني على اجتماعاتٍ، دارتْ في قم الإيرانية، لرأبِ الصدع بين الصدر والمالكي في سبيل تشكيل حكومة الأخير الثانية.
نموذج مثل هذا يعرض سياقاً لطبيعة التحرّكات الخاضعة لها جماعاتٌ مسلحةٌ شيعية عراقية هي العمود الفقري للحشد الشعبي. أن يلعب حزب مليشياوي من دولة أخرى دوراً حاسماً في أوضاع مفصلية للنشاط الأمني والسياسي في العراق، إنما يبرهن إيقاعَ الشبكةِ الإقليمية المتمحورة حول طهران، ويكشف طابَعها وخريطتها. في النهاية، هو دور إيران، غير أن إعطاء حزب الله اللبناني الدور والمكانة في العراق هو إخضاع دولة لقرار تنظيم سياسي مليشياوي من دولة أخرى.
بدون فعاليةِ شبكةٍ مثل هذه، ستضطر الجماعات العراقية إلى الانخراط في حياة سياسية، وليس في عبث أمني. حيث تفيد الدلائل بأن شعبية الحشد الولائي (الجماعات الموالية لإيران في الحشد الشعبي) في تراجع مضطرد. هي لا تمتلك حواضن شعبية صريحة. تُظهر نتائج الانتخابات منذ عام 2021 تراجعاً جماهيرياً حادّاً وصريحاً تمتعت به المليشياتُ زمنَ الحرب ضد "داعش". ذروة الرصيد الشعبي السابق للحشد عرفتْه انتخاباتُ 2018 البرلمانية. وقتها، حصلت قائمة الفتح، المشكّلَة مِن الحشد الولائي، على المركز الثاني. أما مثالُ التراجع الراهن فهو الانتخابات البرلمانية 2021. لم تحصل قائمة الفتح سوى على 17 مقعداً، أي ما نسبته حوالي 5% من مقاعد مجلس النواب البالغة 329. قد يُقرأ هذا سبباً في تحوِّل المليشيات من كونها قتالية في مواجهة "الإرهاب" إلى جماعات أقرب ما تكون إلى مافيات متهمة، بل مدانة، بنشاطات "إرهابية". هي تريد أن تسد نقصها بزيادة عنفها.
المليشيات واقعٌ له سقف رسمي عراقي، وفي الوقت نفسه تعمل تحت سقف آخر، سقف انخراطها في الشبكة المتمحورة حول إيران
المليشيات الولائية تعمل على سد النقص، ليس فقط من خلال ما قامت به منذ عام 2019 من تصفية ناشطين وقتل متظاهرين، إنما كذلك في إخضاع مقدرات البلد لخياراتها المسلحة. هي تتوهم، وقبلها الرئيس الأسبق صدّام حسين توهّم، أنها قادرة على إلحاق هزيمة تاريخية بالأميركيين على حساب العراقيين. أظنّ أن قياداتها، ومن وراءهم، يعتقدون أن بمقدورهم فعل ما قامت به حركة طالبان في أفغانستان، متناسين فروقاً جيوسياسية حاسمة. لذا يشنّون هجمات متكرّرة على القوات الأميركية أدّت إحداها إلى مقتل جندي عراقي. ثم، بعد اجتماع موسّع لقيادات جماعات الحشد، قرّر أبرز مسؤول في الحشد الشعبي عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك)، إعلان حالة الطوارئ، إثر قيام القوات الأميركية باستهدافات مميتة لقياداتٍ في جماعتي النجباء وحزب الله العراقي ومقراتهما.
الحشد الذي يترأس "أركانه" المحمداوي مؤسّسة لها صفة رسمية وفق قانون صدر عام 2016. قانونيا لا يحقّ له التحركُ بلا أوامر القائد العام للقوات المسلحة، رئيسِ الوزراء محمد شياع السوداني. إعلانُ حالة الطوارئ، والمشاركةُ المستمرةُ في استهداف القواعد العسكرية العراقية التي تضم مستشارين أو قوات أميركية، فضلاً عن التحركات العسكرية في سورية، تضاف إليها التهديدات والاستفزازات بدون العودة للقنوات الرسمية، كلُّها لم تصدر علانيةً عن الجهة المسؤولة وهي رئيس الوزراء. بمعنى أن الحشد، وهو مؤسسة رسمية، يتحرك خارج القانون المشرّعِ استمرارَه. خطواتٌ كهذه وغيرها كثير، إنما تنبع من ذهنية مليشياوية في أحسن تقدير، وفي تقدير أقرب إلى الواقع، مافيوية. إرهاب الخصوم، مدنيين أو سياسيين، هو منهجها. بلغ الحال بها أن هدّدت أكثر من مرّة رئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي بالقتل.
بتعبيرٍ آخر، المليشيات واقعٌ له سقف رسمي عراقي، وفي الوقت نفسه، تعمل تحت سقف آخر، سقف انخراطها في الشبكة المتمحورة حول إيران، والخاضعة للحرس الثوري وحزب الله اللبناني. لذا، ليست الاستهدافات المتكرّرة للسفارة والمراكز العسكرية الأميركية قراراً عراقياً. وجود واشنطن في بلاد ما بين النهرين منسقٌ مع رئيس الحكومة، بصرف النظر عما إذا كان سليماً أم سقيماً.
لا يمكن للحشد الشعبي الاستمرار بدون شرعية انتمائه رسمياً للدولة العراقية
الجهة المعنية بالموضوع قانونياً هي الحكومة. أما استهداف المصالح الأميركية فهو عبثٌ مليشياوي لا ينطلق من الحرص على مصالح العراق. واشنطن وبغداد مرتبطتان باتفاقية أمنية صريحة. يمثّل الوجود الأميركي المحدود في البلاد مشكلة لإيران حصريا، لأنه لا يعطيها أريحيةً في مزيد من أدوارٍ هي أساساً أكثر مما يحتمل. لم تتدخّل واشنطن بقوة في تعيين حكومات عراقية. بالعكس، كان بعض رؤساء الوزراء السابقين ممن لم ترغب بهم، مثل عادل عبد المهدي ونوري المالكي في الدورة الثانية وإبراهيم الجعفري. أصبح هؤلاء رؤساء وزراء بقرار وضغط إيرانيينِ. لهذا، لا صلة لاستهداف المصالح الأميركية بمصالح بغداد بقدر ما هي غايات طهران نفسها. القوة الوحيدة التي تخشاها إيران في العراق هي الولايات المتحدة.
سيقال إن الأميركيين قَتلوا قاسم سليماني في بغداد. نعم، هذه كانت أول عملية أميركية صريحة ضد إيران. وبصرف النظر عن توصيفها أخلاقياً وقانونياً، هي جاءت ردّاً على استخدام العاصمة العراقية منطلقاً ضد الأميركيين، بلغ مدى الهجومِ على السفارة الأميركية في مطلع عام 2020 ومحاولةِ احتلالها. تعامل سليماني مع بغداد كأنها طهران 1979 عندما احتل ثوريوها سفارة واشنطن. لم تحارب الولايات المتحدة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في العراق. العكس هو الصحيح، مَن شن الحرب بين الاثنين على الآخر، منذ عام 2004، عندما كان جيشُ المهدي مرتبطاً بالمخابرات والحرس الثوري الإيرانيين، لغاية مقتل قاسم سليماني بداية 2020، هو إيران وليس أميركا.
من الناحيتين المالية والقانونية، لا يمكن للحشد الشعبي الاستمرار بدون شرعية انتمائه رسمياً للدولة العراقية. بلا التمويل الرسمي لا يقدر على الصمود، خصوصاً أنه بلا حواضن حقيقية. ولولا الخوف من تعريض البلاد إلى مواجهاتٍ مسلحة غير مدروسة العواقب، ولولا تعقيدات محلية وإقليمية، ولو اتخذ رئيس الحكومة، الحالي أو آخر، قرار مواجهةِ هذه الجماعات، لوجدتْ نفسَها مضطرّةً إلى قتال شوارع ضد العراقيين، مثلما كان حال "داعش" و"القاعدة" ومليشيات البصرة خلال عمليات صولة الفرسان عام 2007، في حربٍ لن تكون فيها سوى عصاباتٍ مسلحة لا أظنّ أن لعبثها المليشياوي حواضنَ شعبيةً كافية.