عالم من دون أطفال غزّة
يشكل إحصاء الشهداء تحدّياً حقيقياً يومياً في غزّة، التي تتعرّض للقصف وتحوّل جزءٌ كبيرٌ منها دماراً. وتُقدّر وزارةُ الصحّة الفلسطينية أنّ عدد القتلى تجاوز خلال نحو 11 شهراً من الأعمال الإسرائيلية الانتقامية والعشوائية الـ40 ألفاً. رقم قاتل يُسلّط الضوء على حجم الخسائر في القطاع، وعلى توتّر حياة ملايين الفلسطينيين، في حين يُظهر بقيّة العالم عجزاً عن وقف الحرب والأبارتهايد، ما يُمثّل عصراً جديداً من الجريمة والعزل والفصل والتمييز، وإنتاج المجازر والاضطهاد، والتوحّش الشديد في تجاوز القوانين وحقوق الفلسطينيين الأساس.
لا تُفرّق إحصاءات هيئة الصحّة العامّة الفلسطينية بين المدنيين والمقاتلين. وتقول "إنّ 75% من إجمالي عدد الضحايا هم من النساء والأطفال، من أولئك الذين استُهدِفوا داخلَ منازلهم أو في أماكن سكنهم ولجوئهم في المشافي ومدارس الإيواء. ما يعني فقدان 40 ألفاً من العائلات، أي 40 ألف امرأة وطفل وشابّ وبالغ ومسنّ لم يعودوا موجودين. وهناك الأطفال الذين لن يكبروا أبداً، ولن يفعلوا ذلك مُطلقاً.
تفيد تقارير منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (يونيسف) بأنّ الأطفال في غزّة يعيشون ظروفاً صعبةً نتيجةَ الصراع المستمرّ والحصار المفروض على القطاع. الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن سنتَين يُشكّلون نسبةً كبيرةً من الضحايا، إذ قُتِل ما لا يقلّ عن 2100 رضيع وطفل صغير، والظروف الإنسانية تزداد سوءاً، فيتعرّض الأطفال للخطر (الرومان القدماء كانوا قادرين على إقرار حقوق الأطفال الذين لم يولدوا بعد).
أصبحت غزّة مقبرةَ النساء والفتيات والأطفال
يوميّاً، ينشر الإعلام صوراً تظهر آباء يحملون أشلاءَ أطفالهم داخل أكياس، أو صورَ النساء اللواتي أُجبرنَ على النزوح القسري مشياً على الأقدام مسافاتٍ تقدَّر بعشرات الكيلومترات، وسط كثافة النيران والموت، إذ لا شيء يمكن إدراكه بقوّة أكثر من الإحساس بعمق سوء الأوضاع، إذ يفتقر الناس ظروف الحياة العادية، والبنى والهياكل الاجتماعية، ويعانون من سوء التغذية، ونقص الرعاية الصحّية الإنسانية، بسبب تدمير البنية التحتيّة وندرة المواد.
يوجد في غزّة 1.1 مليون أنثى، وفي كلّ ساعة تُقتَل اثنتَان من الأمّهات في ظلّ استمرار حرب الإبادة. غزّة أصبحت مقبرةَ النساء والفتيات والأطفال. يوجد في غزّة 52 ألفاً و500 رضيع يواجهون خطر الحريق والجوع والجفاف، أو فقدان ذويهم بقنابل الاحتلال التي تتساقط، فضلاً عن مخاطر الاكتظاظ والمرض والشلل، بسبب غياب أبسط لوازم الطعام والشراب والدواء، إضافةً إلى تكدّس الناس في أماكنَ غير آمنة.
وتُقدّر الأمم المتّحدة عدد الأطفال الفلسطينيين غير المصحوبين بذويهم بنحو 19 ألفاً، وتعاني الوكالات الدولية المعنية بشؤون الإغاثة من صعوبات لمّ الشمل، إذ غالباً ما يكون الأطفال النازحون متروكين تماماً بعيداً من عائلاتهم، يواجهون الظروف المأساوية الصعبة والمستحيلة. وتواجه تلك الوكالات تحدّيات حقيقية في رصد الأعداد الحقيقية إزاء عنف الدمار والقتل والتهجير اليومي. فتسجيل بيانات المفقودين (أكثر من 10 آلاف) مسألةٌ مُعقَّدةٌ جدّاً. والصحافيون الفلسطينيون، والمستجيبون الأوائل، وعمّال الإغاثة الدوليون، ومنظّمات مراقبة ضحايا الحرب، يقولون جميعهم "إنّ العدد الرسمي للقتلى والمفقودين قد يكون أكبر بكثير، حيث فوضى الحرب والقصف تقلب رأساً على عقب نظاماً قوياً لإعداد التقارير لتتبع الضحايا والتعرّف إلى الموتى"، ما فتح الباب أمام انتقادات لإحصائيات وزارة الصحّة في غزّة، على الرغم من أنّ أعداد الضحايا في الحروب الماضية قد تمّ تأكيدها من قبل خبراء مُستقلّين ومنظّمات مستقلّة في الأمم المتّحدة.
لم يعد هناك شكوك عالمية في أنّ الإبادة الجماعية في حقّ المدنيين في غزّة أكبر من تلك التي وقعت في رواندا 1994، وفي الحرب اليوغوسلافية (1991 - 2001)
يُعتقَد أنّ آلاف الجثث لا تزال مدفونةً تحت الأنقاض من دون إمكانية التعرف إلى أصحابها، ولم يتم انتشال سوى أجزاء أو قطع من أمكنة القصف، أو الأكياس المملوءة بأجزاء من أجساد عائلات بكاملها، لا سيّما الأطفال منهم، في مشهد غير مسبوق في الحروب العالمية، بما في ذلك الهجوم على المستشفيات واحتجاز العاملين في مجال الرعاية الصحية وقصفهم بالقنابل. أخيراً، وسّعت الوزارة بياناتها لتشمل الحالات التي فُحِصَت لأشخاص أُبلِغ عن وفاتهم من أفراد الأسر أو وسائل الإعلام المحلّية لتشمل الجثث مجهولة الهُويَّة، أو الذين جرى تأكيد هُويَّاتهم جزئياً فقط. لكن المعلومات في القطاع أفضل بكثير من جميع الصراعات الأخرى في أوكرانيا وسورية والسودان وإثيوبيا والكونغو وأفغانستان، رغم أنّه في حالات كثيرة قُتِلت عائلاتٌ بأكملها في غارة واحدة، ولم يبق أحدٌ للإبلاغ عن وفاتها. الأمم المتّحدة ساندت تلك الأرقام، وبروتوكول الإبلاغ عن الوفيات يأتي "موثوقاً تماماً"، لكن مع تفاقم العنف، ومحاصرة القوّات الإسرائيلية مستشفيات عديدة وتدميرها، انهار النظام الصحّي، وهجّر غالبية السكّان مرّاتٍ، وانقطعت شبكات الهاتف المحمول والإنترنت، وقام الاحتلال بفصل شمال غزّة عن جنوبها، ممّا جعل من الصعب على العاملين في مجال الرعاية الصحّية معرفة من استشهد وأين ومتى، لغياب البيانات والإعلام مع استهداف الصحافيين. لقد أبلغت وزارة الصحّة في غزّة تاريخياً عن بيانات دقيقة من الوفيّات، ولم يُعثَر على أيّ دليلٍ على تضخيم المُعدّلات.
يستطيع العالم أن يشعر بالغضب الكبير من قتل الأطفال والفظائع التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في نبش الجثث وتشويهها، وحتّى سرقة الأعضاء، وهي جرائم تتعارض مع موادّ اتفاقية جنيف 1949، وتستدعي تدابيرَ وقائيةً تتيح بصورة فعّالةٍ وقفها وإحالتها على محاكم جنائية خاصّة (استغرقت نحو 10 سنوات في يوغوسلافيا)، وتصطدم بالفيتو في مجلس الأمن على خلفيةٍ سياسيةٍ ومصالحَ دولية. ومن الأشياء السالبة، التي تحتفظ بها ذاكرة التاريخ، أنّ الأغلبية العظمى من الإسرائيليين لا تُشكّك في الاحتلال "غير القانوني" بموجب قرار حديث لمحكمة العدل الدولية، ويواصلون تأييد عملية الإبادة العنصرية التي تستهدف كلّ شيء لأهداف الانتقام الكلّي، وردع الفلسطينيين عن أيّ مقاومة مسلّحة للاحتلال في المستقبل، وتأليبهم على حركة المقاومة "حماس".
يُعتقَد أنّ آلاف الجثث لا تزال مدفونةً تحت الأنقاض من دون إمكانية التعرف إلى أصحابها
هذا الوضع المأساوي يزيد من حاجة "يونيسف"، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والمنظّمات الإنسانية، الى تمويلاتٍ ودعمٍ أكثر تلبيةً لاحتياجات الأطفال والمدنيين، ولحمايتهم من الأذى. هذه المسألة لا تقتصر على الحرب في غزّة فقط، بل تمتدّ إلى العديد من الحروب والنزاعات الأخرى في مختلف أنحاء العالم. آخر تقرير لـ"يونيسف" يُركّز في التحدّيات التي يواجهها الأطفال في العالم، في ظلّ أزمات النزاعات والحروب والأزمات المناخية، وأنّ 466 مليون طفلٍ يعيشون في مناطق تتعرّض لعدد متزايد من الأزمات، في مناطق مثل غرب أفريقيا ووسطها، وأطفال غزّة هم الأكثر عرضةً للمآسي.
يُدفَن الموتى ويُعالَج الجرحى، لكن يبقى أولئك غيرُ المرئيين، الذين لا يُعثر عليهم، وتجرى محاولات إنقاذهم بطرق متعثّرة، ووكالات البحث التابعة للصليب الأحمر الدولي والهلال الأحمر الفلسطيني تقف عاجزةً (تصف اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأوضاع في غزّة بالأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية)، ولم يعد هناك شكوك عالمية في أنّ الإبادة الجماعية المرتكبة في حقّ المدنيين أكبر من تلك التي وقعت في رواندا 1994، وفي الحرب اليوغوسلافية (1991 - 2001).
شراهة إسرائيل للقتل ولانتهاك حقوق الإنسان تأخذ العالم إلى حيث تشاء فقط، لأنّ الأخير يغضّ الطرفَ عنها، فيما تدعو الأمم المتّحدة إلى وقف نار الحرب فوراً، وتقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين.