لبنان بين الأوهام وفرصة نهضة جديدة
بحلول العام 2025، تكون قد انقضت 50 سنة من بداية حرب أهلية لبنانية توقفت/ لم تتوقّف، تركت تداعياتها ومفاعيلها في المشهد السياسي الداخلي فترةً طويلةً. وفي كلّ مرّة تُفرَض حرب جديدة تنعكس آثارها في تغييرات سكّانية واقتصادية وسياسية، وفي أمن البلاد واستقرارها، إذ تتصاعد التوتّرات بين الأطراف السياسية، وتتعمّق الخلافات بشأن مستقبل البلاد، ودور السلاح خارج سيطرة الدولة، والموقف من التطوّرات الٳقليمية.
لا تختلف الحرب أخيراً بين حزب الله وإسرائيل عن حرب العام 2006، كرّست تأخّر لبنان عن العالم بشكل كبير، لم يجنِ لبنان منها سوى مزيد من الانهيار والتراجع في لعبة الحسابات المتجاورة والشعارات والأيديولوجيات من دون طائل، بل سلّطت الضوء على حجم الانقسامات الداخلية، وما تحمله من تهديدات وجودية للبنان دولةً موحّدة.
مضت السياسات اللبنانية بعيداً في الأوهام، لم تقرأ آخذة بالاعتبار المعادلات الدولية والإقليمية في لعبة جيوسياسية كبرى، وإنما من خلال طموحات أيديولوجية ومذهبية لهذا الفريق أو ذاك، وكانت ٳحدى نقاط الانقسام والصدع الرئيسة بين المجموعات السياسية المختلفة، منذ انسحاب القوات السورية في العام 2005. وأظهرت الحرب مرّة أخرى أن لبنان لا يستطيع تحمّل أعباء المزيد من الصراعات التي تُفرَض عليه بسبب ارتباطات خارجية، وسط الحاجة ٳلى الاستقرار وٳصلاحات جذرية سياسية ودستورية تعزّز سيادة القانون، وتحدّد أولوياته الوطنية، بعد سلسلة طويلة من الأوهام التي تغذّيها الأوضاع المتغايرة. ومع استمرار هذا النمط، يبدو أن على الجميع أن ينتظروا حرباً جديدة تعيد طرح الأسئلة ذاتها.
هناك قلق من أن يوقف بنيامين نتنياهو تنفيذ اتفاقية الهدنة، وهو ينتظر فرصةَ تنصّل حزب الله ليطلق عدوانيته مجدّداً
لقد شكّل العام 2024 زلزالاً حقيقياً من الأحداث النوعية المتسارعة، حبست أنفاس اللبنانيين، وانتهت بسقوط حكم نظام الأسد في سورية بانتهاء وظيفته وانتزاعه من يد إيران وقبضة حزب الله، في تصدّع مدوٍّ للمشروع الذي بناه الٳيرانيون للسيطرة، ما يفتح أمام اللبنانيين طريقاً مغايراً لاستعادة الدولة والعمل بالدستور وبسط السيادة في حدود آمنة ومستدامة، وبدء مسيرة استعادة التعافي من الانهيار المالي ومحاسبة المسؤولين عن منظومة الفساد، التي فقدت أهليتها وصلاحيتها الوطنية. سيكون أمام اللبنانيين في العام 2025 تحدّي الخيارات الاستراتيجية، والتطلّع إلى شراكات إقليمية مع نظام إقليمي يدفعهم من جديد إلى النظام العالمي الذي غابوا منه، أو تأخّروا عنه طويلاً نتيجة التمسّك بمصالح فئوية ومذهبية وسياسية يحصلون عليها في خدمة مشاريع خارجية، تجعل منهم ومن دولتهم ساحةَ صراع حقيقية.
الأيام المقبلة حاسمة في هذا السياق على وقع استمرار التوتّر والتعثّر جنوياً، هناك خطر على الاتفاق وتمديد تطبيقه إلى ما بعد 60 يوماً، ويمكن لإسرائيل أن تستعدّ لعدوان جديد، والتعزيزات العسكرية الأميركية في الطريق. المُسيَّرات ما زالت تحلّق فوق بيروت، فيما تستمرّ ٳسرائيل، وكأنّ الاتفاق لا يلزمها. وفي حمأة الحديث عن تطوّرات الوضع بين لبنان وسورية، يخيّم مستوطنون في بلدة مارون الراس، وتفجّر قوات الاحتلال في الشريط الحدودي، فيما لجنة الإشراف على وقف ٳطلاق النار لا يُعرَف كيف تعمل، ولم تتّضح للآن مهمّة الجيش اللبناني. والقلق من أن يوقف بنيامين نتنياهو عملياً تنفيذ اتفاقية الهدنة، وهو ينتظر فرصةَ تنصّل حزب الله، ليطلق عدوانيته مجدّداً.
غالبية اللبنانيين يبدون تمسّكاً بالتنفيذ الدقيق لقرار مجلس الأمن 1701، الحجر الأساس لٳعادة ٳعمار الدولة ومؤسّساتها، علماً أن مشاكل لبنان لا تقتصر على النواحي السياسية والأمنية التي ترتبط بأزمة الحرب والشغور الرئاسي أو بتطوّرات الإقليم، إذ إن الأزمة الاقتصادية لا تعود إلى تداعيات العدوان الإسرائيلي فقط، بل إلى الإدارة السياسية التي أخذت وقتاً طويلاً، وأظهرت عجزها عن إقامة دولة. لم ينجُ لبنان من التهلكة بعد، ولذلك مصلحة لبنان في تنفيذ اتفاق 27 نوفمبر (2024) وملحقاته (لم ينشر في الجريدة الرسمية)، والذهاب ٳلى انتخاب رئيس قادر على تنفيذ الاتفاق وتحصين ضماناته الدولية والعربية، قبل أن تتبدّل الموازين وتصبح المعادلات أصعب.
الراجح أن القوى الطائفية لم تتوصّل بعد إلى التوافق على مرشّح رئاسي، وسط خلافات بشأن طبيعة الاستحقاق، صفقات أو تفاهمات، أو مساومة مع ضيق هامش العدّ العكسي لموعد جلسة الانتخاب في التاسع من الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني)، وتصاعد المخاوف من تراجع الاهتمام بلبنان ومرواغة ٳسرائيل في موضوع انسحاب قواتها من لبنان. مع ذلك، التواريخ الموضوعة لٳنهاء الفراغ ليست ملزمة عند بعض الأطراف، والتسوية لم تعد رئاسية فقط، بل أصبحت حكومية أيضاً. فالثنائي الشيعي يطمح ٳلى الحصول على ثمن إبقاء الواقع السياسي القديم. يتمسّك حزب الله بوصفه قوة سياسية عسكرية بيدها القرارات الرئيسة أمنياً وسياسياً، بانتظار تسوية شاملة في المنطقة تكون ٳيران من ضمنها، ويرفض فكرة قبول الأمر الواقع وتسليم سلاحه وصواريخه للجيش اللبناني، وحلّ الجهاز الأمني، والتحوّل حزباً سياسياً فقط. وهو يسعى للاستمرار بما لديه من أسلحة في شمال الليطاني نظراً إلى ما قد يوفّره ذلك له من منافع سياسية واقتصادية، من دون التطرّق ٳلى موقفه الفعلي من تسوية مستدامة مع شركائه اللبنانيين.
في المقابل، تتريث المعارضة في تسمية مرشّحها قبل انقضاء المهلة المعطاة للبنان لتطبيق القرارات الدولية. ويعمل هذا الفريق على الاستحقاق بربط الانتخابات الرئاسية بالمستجدّات. لكن من دون أن يقدّم تصوراً للنظام الإقليمي المستقبلي، الذي يفترض أن يحلّ مكان الأسد "خريطة طريق تنظم العلاقة بين بلدين سياديين ومستقلين" (وليد جنبلاط)، ما يسمح للبنان بدور الشريك الكامل مع النظام الدولي والعربي الجديد في سورية. لذلك يجري الحديث عن "الجاروفة الدولية" ورسائل مباشرة قد تصل من المجتمع الدولي لٳنجاز الاستحقاق في موعده، وبما يخدم مصلحة لبنان أولاً.
سقوط الأسد يفتح أمام اللبنانيين طريقاً مغايراً لاستعادة الدولة والعمل بالدستور وبسط السيادة في حدود آمنة ومستدامة
يحتاج لبنان إلى عقد وفاق وطني جديد، والأفرقاء مختلفون بالعمق، وما يصفه اللبنانيون بالتحوّلات الكبرى لا توصل ٳلى شيء من دون التوافق على تحديد مستقبل البلاد والوقوف على الٳشارات الإقليمية والدولية ومقاربتها بتعليقات ومواقف وخطوات عملية. هذا كلّه يتطلّب معالجة المشاكل السياسية والإقليمية بطريقة عقلانية، وليس على طريقة الشعارات القديمة، من جهة المعنيين بالتغيير والقيادات القادرة على تعبئة طموحات وتصورات تحوّل الفرصة السياسية ثابتاً سياسياً، فيتجاوز الأمر مسألة من هو صالح للرئاسة إلى التفكّر عميقاً بمن يعيد إلى لبنان جزءأ من دور تلاشى، ويجد له أدواراً افتراضية تنهض بتصوّرات جديدة في العالم العربي والٳقليم، حيث الصراع هو على معالجة الأمور الحقيقية (غالب النقاش السياسي تركز سنتين حول موضوع واحد هو الرئاسة، ما يؤكّد ضعف التكوين السياسي للفاعلين الحاضرين).
يحتاج اللبنانيون ٳلى دولة تنهض بٳمكانياتهم الاقتصادية والإنتاجية والتنافسية، وبأصول البلد البشرية، لتأسيس نهضة جديدة ضمن المتغيّرات الكبيرة في مجال الاقتصاد والتجارة والصحّة والتعليم والنظام المصرفي، الإقليمي والدولي، والثقافة جزء أساسي من صورة لبنان ما قبل 50 سنة مضت.